أفلاج العين» في ندوة تراثية لمركز زايد للتراث والتاريخضمن الفعاليات الثقافية السنوية لمركز زايد للتراث والتاريخ التابع لنادي تراث الامارات بالعين والتي يهدف من خلالها الى تسليط الضوء على تراث دولة الامارات العربية المتحدة والحفاظ عليه وبعثه حيا في نفوس الأجيال المقبلة نظم المركز ندوة تراثية بعنوان «الأفلاج في مدينة العين» وذلك بمشاركة نخبة متميزة من الباحثين والمتخصصين في مجال التراث المحلي. وقدم الندوة الدكتور أمان الدين محمد حتحات من جامعة الامارات ومريم سلطان ربيع الظاهري باحثة متخصصة في شئون التراث المحلي.وفي بداية الندوة تحدث الدكتور أمان الدين محمد حتحات عن الفلج وتعريفه من الناحية اللغوية وعرض بعضا من الشواهد الشعرية القديمة في هذا الاتجاه. واشار الى ان الإنسان العربي عرف الفلج منذ القدم ولم ترد فكرته مع الغزاة كما يقال. كما تحدث الدكتور أمان الدين عن جدلية الصراع بين الجفاف والرطوبة في المنطقة العربية نظرا لتغيير الدورة المناخية مما دفع بالإنسان العربي الى التفكير في طريقة لحفظ الماء فاهتدى الى حفر الأفلاج في باطن الأرض. ووقف عند الشواهد القديمة المكتشفة في انحاء الجزيرة العربية في كل من الامارات وعٌمان والسعودية التي تحاكي الاثار المكتشفة في بلاد الشام . وغيرها من بلاد العرب مشيرا الى انها على الرغم من تشابهها في بعض الصفات إلا انها تختلف من حيث الإشعاع والعمق ونوعية المياه وتدفقها. بعد ذلك تحدثت الباحثة مريم سلطان ربيع الظاهري عن تاريخ الأفلاج في مدينة العين وعن توزيعها الجغرافي والتي وصل عددها الى 300 فلج مشيرة الى ان اغلبها اندثر بفعل عامل الزمن وأن من أهم ما بقي منها شاهدا على الحضارة والتراث العربي الأصيل أفلاج الهيلي والقطارة والجيمي والمعترض والمويجعي والداودي والصاروج ومزيد..
الأربعاء، 30 ديسمبر 2009
دراسة تحت عنوان : تطور الكتابة العربية
الدكتور أمان الدين محمد حتحات
جامعة الإمارات العربية المتحدة
وحدة المتطلبات الجامعية العامة، برنامج اللغة العربية.
مراحل تطور الكتابة العربية حتى نهاية القرن الثاني الهجري
لم تحظ أمة من أمم الأرض بما حظيت به الأمة العربية من تاريخ عريق للكتب والمكتبات
يمتد إلى ما قبل خمسة آلاف عام، ولم يكن هذا الامتداد من فراغ، بل جاء نتاجًا للعلاقة الوثيقة
بالميراث الثقافي والحضاري لهذه المنطقة، التي تعاقبت عليها حضارات شتى تراكمت، وتفاعلت،
وتمازجت في نسيج رائع، حتى غدت بلادنا مركز إشعاع فكري امتد نوره؛ ليغطي العالم القديم
المعروف آنذاك.
وهنا يتضح لنا هذا النسيج الذي يبرز عمق الجذور في تاريخ الكتابة والتوثيق، حيث نمت
في الأرض العربية، وفيها نشأت أقدم المكتبات في العالم، وفي رحابها استقرت وحفظت الوثائق،
والنصوص المكتوبة منذ آلاف السنين، شاهدة على حضارة عريقة، ترمز لما مثلته المعرفة
( والتدوين والكلمة المكتوبة والوثيقة من أهمية بالغة.( 1
تجلت ملامح هذا الإشعاع فيما بقي لدينا من آثار للكتابة؛ من ذلك ما ذكره الجاحظ والهمذاني
عن النقوش الكثيرة والكتابات التي زين بها قصر غمدان، وكعبة نجران وباب القيروان وباب
سمرقند وباب الرها وعمود مأرب وركن المشقر والأبلق الفرد، فهذه الكتابات لم تكن لتوضع لو
لم تكن تترجم ما كان معروفًا من كتابات وميراث، وقد كانوا يهدفون من وراء ذلك إلى الفكرة
التي سعى الأقدمون إليها، فهذه الكتابات التي كانوا ينقشونها في أقصى المواقع سعوا إلى
( حفظها من الاندثار؛ لكي يشاهدها من م ر بها، ويحفظ ذكرها على م ر الأزمنة والعصور( 2
تلت تلك المرحلة مرحلة الإسلام الأولى حيث كان العرب في هذه المرحلة يهتمون كبقية الأمم
القديمة في تدوين مذكراتهم، وأحداث عصرهم في نقوش كما أكدت آثار اليمن وغيرها، ولم
يتركوا لنا آثارًا مكتوبة كثيرة، ومرد ذلك طبيعة حياتهم آنذاك، واعتمادهم على الترحل والانتقال،
يضاف إلى ذلك قلة ال َ كَتبة، وإن كانوا على جانب كبير من البيان والبلاغة، حتى إن النبي العربي
الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الأ م ي لم يجد إلا نفرًا قلي ً لا في أمته لكتابة ما جاء به
الوحي حيث د ون القرآن الكريم على الر ّ ق، وعلى الحجارة، وسعف النخيل، أي على النحو الذي
حفظ به العالم القديم ملحوظاته وأحداث الأزمنة الغابرة.
وتؤكد البحوث المعاصرة أن عددًا من الصحابة تركوا آثارًا مكتوبة بخطوطهم عثر عليها
مؤخرًا( 3) إضافة إلى أن القرآن الكريم الذي يعد أول كتاب سماوي د ون مع ظهور الإسلام كان
يحفظ أو ً لا في صدر النبي صلى الله عليه وسلم حتى تجتمع إليه الكتبة.
بعد هذه المرحلة أدى العرب بعد ظهور الإسلام دورًا خطيرًا في تاريخ الكتب والمكتبات، فقد
نقلوا إلى اللغة العربية كل ما وجدوه من تراث سابق، وأضافوا إليه ما ابتكروه من علوم، وما
أبدعوه من آداب وفنون، حافظوا على هذا الرصيد الحضاري؛ نق ً لا وإضافة إلى أن أسلموه إلى
أوروبا في القرن الثاني عشر للميلاد؛ فكانوا موئ ً لا عظيمًا للثقافة، وكانت مكتباتهم مستودعًا
أمينًا للتراث الإنساني منذ أقدم العصور.
قبل الخوض في تفصيلاتنا نجد أن من الضرورة بمكان أن نشير إلى أ ن تاريخ الكتاب قد
ارتبط بعاملين أساسيين:الأول عامل ثقافي حضاري قائم على العلم، ونشوء التدوين، والثاني
عامل مادي فني متعلق بتوفر مواد الكتابة من البردي، وال ر ّ ق والورق فيما بعد،وتهيئتها لصناعة
الكتاب، ثم كان لظهور الكتاب دور في التمهيد لنشوء المكتبات التي امتدت إلى شتى الأمصار.
الصحيح أن الكتاب ارتبط بمراكز العلم، وولد في قاعات الدرس بشكل عام، فقد عاشت المكتبة
في كنف أماكن العبادة، مثل الأزهر في مصر، والزيتونة في تونس، والجامع الكبير في صنعاء،
هذا كله يترجم لنا توفر الج و الثقافي، وانتقال العلوم من المشافهة إلى التدوين، ونشوء المراكز
العلمية.
تط ور أدوات الكتابة
لقد كان لأدوات الكتابة، ووسائلها الدور البارز في ظهور الكتاب؛ لذا فإّني سأقف وقفتين؛
الأولى عن المواد التي كانوا يكتبون عليها، والثانية عن المواد التي كانوا يكتبون بها.
أما الأولى؛أي المواد التي كانوا يكتبون عليها فهي ضروب شّتى؛ أبرزها:
1 – الجلد: وكانوا يسمونه ال رق، والأديم، والقضيم، والفرق بينها غير واضح من النصوص
والروايات نفسها، ولكن المعجمات تجعل ال رق الجلد الرقيق الذي يسوى ويرّقق ويكتب عليه،
وتجعل الأديم الجلد الأحمر أو المدبوغ، وتجعل القضيم الجلد الأبيض يكتب فيه، وقد ورد ذكرها
كّلها في الشعر الجاهلي.
2 – القماش: وهو إما حرير وإما قطن، ويطلقون على الصحف إذا كانت من القماش:
المهارق، مفردها ال م ه رق، وهو لفظ فارسي مع رب.
3 – النبات: وأشهر أنواعه العسيب، وجمعه ع سب وهو السعفة، أو جريدة النخل إذا يبست
وشذبت من خوصها. وقريب من العسيب: ال ُ ك رنافة وجمعها كرانيف، وهي أصول السعف
العراض اللاصقة بالجذع، وقد ورد أن الوحي كان يكتب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
على العسب والكرانيف. ومن ذلك ال رحل ويكون من الخشب الذي يوضع على ظهر الجمل
ليركب. ومن الخشب أيضًا الروسم (الخشب العريض) والسهم والعصا.
4 – العظام: وأشهر أنواع العظام التي كانوا يكتبون عليها: الكتف واللوح والأضلاع.
5 – الحجارة: وهي حجارة بيض رقاق يكتب عليها، وقد كتبت عليها آيات القرآن الكريم على
عهد الرسول (ص)، ومن تمام الحديث عن النقش على الحجارة أن نشير إلى النقش والكتابة
على البناء،فقد ورد أن رسول الله (ص) لم يدخل الكعبة يوم الفتح حتى أمر بالزخرف فمحي
وأزيل، وأمر بالأصنام فكسرت أي النقوش والتصاوير، وقد روى ابن الكلبي أنه أخذ علمه
بأنساب العرب مما وجده على جدران كنائس الحيرة.
6 – الورق: وقد عرف الصينيون صناعته منذ زمن بعيد، وقد استخدمه العرب في الكتابة،
فقد ذكر ابن النديم أنه رأى أوراقًا من ورق الصين فيها كتابة بخط يحيى بن يعمر المتوّفى عام
90 هجرية، إضافة إلى أن عثمان بن عفان عزم على كل رجل معه من كتاب الله شيء أن يذهب
به إليه، وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه شيء من القرآن. وقال عمرو بن نافع مولى
عمر بن الخطاب " فاستكتبتني حفصة بنت عمر مصحفًا لها....فلما بلغت إليها حملت الورقة
والدواة " وغير ذلك من الأدلة التي لا أرى داعيًا للتفصيل فيها.
ولقد كانت لهذه المواد المكتوبة ألفاظ عامة يطلقونها عليها ليدّلوا على المكتوب، وما ُ كتب
عليه معًا، من ذلك
الصحيفة: وقد تكون جلدًا أو قماشًا أو نباتًا أو حجرًا أو عظمًا أو ورقًا.
الكتاب: وهي لفظة قد تكون أع م من الصحيفة، وأكثرها شيوعًا
الزبور: وجمعها زبر، وقد يراد بها الكتاب الديني، ولكنها تطلق أيضًا على غيره من
الكتب.
أما الثانية؛ أي المواد التي كانوا يكتبون بها فهي ثلاثة أمور:
1 – القلم: وقد أسهب الكثيرون في وصفه كابن قتيبة، وابن النديم، والصولي، والبطليوسي،
والقلقشندي، وخلاصة ذلك أنه مصنوع من القصب يق ّ ط، ويقّلم، أو يبرى، ثم يغمس في مداد
الدواة، ويكتب به.
2 – الدواة: وهو الوعاء الصغير الذي يوضع فيه الحبر؛ ليغمس فيه القلم، ويصنع عادة من
بعض المعادن المعروفة آنذاك كالحديد، أو النحاس.
3 – المداد: أو النِّ ْ قس كما يطلق عليه وهو سائل يؤخذ من رماد بعض المواد المحروقة، أو
من أنواع معينة من الحجارة الملونة تد ّ ق وتطحن وتخلط بالماء حتى يصبغ لونه، وهو على
ألوان أشهرها الأسود. وكثيرًا ما كانوا يمحون المكتوب بالمداد حين تنقضي حاجتهم منه، ثم
يستخدمون الصحيفة لكتابة شأن آخر من شؤونهم، ويسمون هذه الصحيفة التي يكتبون عليها
أكثر من مرة طرسًا.
تنوعت موضوعات الكتابة العربية وتعددت موادها، وارتقت شيئًا فشيئًا مواكبة ارتقاء
الفكر العربي نتيجة لعوامل كثيرة لاتغيب عن أذهاننا جميعًا، ولا يتسع المقام للوقوف عليها.
ولعل أول هذه الموضوعات التي كانوا يدونونها: الكتب الدينية فقد كان اليهود والنصارى
يد ونون كتبهم التي يتلونها باللغة العربية إضافة إلى العبرية والسريانية، بدليل أن المسلمين بعد
فتح خيبر وجدوا مصاحف فيها التوراة فجمعوها ثم ردوها على اليهود ( 4) والموضوع الثاني
الذي حرصوا على كتابته هو هذه العهود والمواثيق والأحلاف ( 5) ونضيف إلى ذلك موضوعًا
هو أكثر اتساعًا، وألصق بحاجات المرء وحياته المعاشية من غيره، هو الصكوك التي تكتب فيها
حسابات التجارة والحقوق( 6) ومن ذلك أيضًا كتابة الرسائل بين الأفراد، يح ملونها أخبارهم،
ويض منونها ما تتطلبه شؤون حياتهم( 7) وكذلك مكاتبة الرقيق، وذلك أن يتفق العبد وسيده على
قدر معلوم من المال يكون في الغالب مساويًا لثمنه، فإذا أداه لسيده عتق وأصبح حرًا ( 8) ومن
ذلك الكتابة على الخاتم الذي تختم به الرسائل، وأوعية الطعام، أو الشراب، بالإضافة إلى كتابة
الأنساب والشعر والأخبار.
الكتابة في صدر الإسلام
قبل أن نخطو نحو الحديث عن الكتب والمصنفات، أجد من الضرورة بمكان أن أشير إشارة
سريعة إلى الخط العربي المستخدم في الكتابة حتى تتكامل الصورة في ذهننا، ونحيط بها إحاطة
السوار بالمعصم.
ظلت نشأة الخط موضع أخذ ورد متأرجحة بين آراء العرب القدامى، والمستشرقين المحدثين،
وسواء أكان الخط توقيفًا عّلمه الله آدم، ثم أصابه إسماعيل بعد الطوفان( 9) ، أم يكون اختراعًا
أخذته العرب عن الحيرة، والحيرة أخذته عن الأنبار، والأنبار أخذته عن اليمن، أو أخذته عن
العرب العاربة الذين نزلوا في أرض عدنان( 10 )، أم يكون مشتقًا من الخط الآرامي كما يذهب
بعض المستشرقين( 11 )، أم يكون مشتقًا من الخط النبطي كما يذهب المستشرقون اليوم.
تاريخ الكتابة المنقوشة قديم يعود إلى القرن الثالث الميلادي، وقد وجد أن حروف كلماتها
نادرًا ما تتشابه مع الحروف العربية، بل هي أقرب إلى الثمودية واللحيانية والنبطية واليونانية
والسريانية؛ لذلك سأقفز فوق الحديث عنها لأشير إلى الكتابة المنقوشة بحروف عربية بعيدًا عن
التفصيلات حول دقة الحرف أو تنقيطه أو تشكيله.
كان يظن أن النقش المحفوظ في القاهرة هو أقدم نقش بين أيدينا؛ لأنه مؤرخ في عام 31
هجرية، أي في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أن عثر خارج السور الشمالي
في المدينة المنورة على كتابة منقوشة أخرى تعود إلى غزوة الخندق في السنة الخامسة
للهجرة.
أما من حيث الكتابة على الورق أو الجلد أو غيره فهي ثلاث رسائل عثر على أصولها
الحقيقية وهي من الرسول (ص) إلى المقوقس في مصر، والمنذر بن ساوى، والنجاشي في
الحبشة. كما نشير إلى مرحلة النقط والشكل والإعجام حيث ينسب إلى الحجاج أنه أمر كّتابه أن
يضعوا للحروف المشتبهة مثل الباء والتاء والثاء والنون علامات تزينها، وقد ينسب إلى
غيره هذا الأمر.
والسؤال المطروح هو: هل عرف العرب الكتابة؟، وإلى أي مدى كانت منتشرة بين المسلمين؟
يقول الجاحظ: (( وكل شيء للعرب، فإنما هو بديهة وارتجال)) ....إلى أن يقول: ((وكانوا
أ ميين لا يكتبون))، وإلى الأمر نفسه أشار ابن سعد في طبقاته، وابن عبد ربه في العقد الفريد
حيث يقول: إنه لم يكن أحد يكتب بالعربية حين جاء الإسلام إلا بضعة عشر نفرًا. وقد وصل
الأمر بابن قتيبة إلى تجهيل الصحابة أنفسهم رضي الله تعالى عنهم بالكتابة، ونعتهم
بالأمية. يقول ابن قتيبة بالحرف الواحد: ((لأنه أي عبد الله بن عمرو كان قارئًا للكتب
المتقدمة، ويكتب بالسريانية والعربية، وكان غيره من الصحابة أ ميين، لا يكتب منهم إلا الواحد
والاثنين، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي)) ( 12 )، ولا ريب أن هذا القول من ابن قتيبة
افتئات على الحقيقة التاريخية، وتعميم لا سند له من الحق، ولو كان قد قال إن بعض الصحابة
كان أميًا لكان قوله سليمًا لا ريب فيه، ولو قال: إن أكثر الصحابة كان أ ميا لقبلنا هذا القول
على ما فيه من تج وز وتعميم. وهنا نذكر بأن كتب الطبقات تَعد من الصحابة عشرات بعد
عشرات كلهم كاتب ضابط لما يكتب، وعندما تتوفر في أمة عشرات بعد عشرات من الكتبة
الضابطين، فإنه يقف وراء ذلك أعداد كبيرة من الكتبة وإن كانوا من غير الضابطين، ناهيك
عما ذكره ابن فارس حين قرر معرفة العرب بعلوم اللغة وقواعدها وعروضها رادًا على من
يذهب إلى استحداث هذه العلوم بعد الإسلام بدهر( 13 )، لكننا لن نذهب طوي ً لا في هذا الاتجاه بل
يكفي أن نعرف أن كثيرًا من الكتب ذكرت أسماء الذين كتبوا لرسول الله (ص)، فقد جعلوهم
مراتب وقدروهم منازل؛ فكّتاب يكتبون بين يديه(ص) فيما يعرض من أموره وحوائجه،
وآخرون يكتبون بين الناس المداينات وسائر العقود والمعاملات، وآخرون يكتبون أموال
الصدقات، وآخرون يكتبون مغانم رسول الله(ص)،ومنهم من يكتبون إلى الملوك ويترجمونها إلى
الفارسية والرومية والقبطية والحبشية، وآخرون يكتبون الوحي، ويعقب المسعودي( 14 ) بعد أن
ينتهي من ذكر أسماء هؤلاء الكتاب واختصاصاتهم بقوله: ((وإنما ذكرنا من أسماء كتابه (ص)
من ثبت على كتابته واتصلت أيامه فيها، وطالت مدته، وص حت الرواية على ذلك من أمره، دون
م ن كتب الكتاب والكتابين والثلاثة إذ كان لا يستحق بذلك أن يسمى كاتبًا ويضاف إلى جملة
كّتابه))
بعد هذه الجولة السريعة التي اقتضبت فيها أضعاف ما أثب ّ ت، ووقفت في محطات مضيئة من
تاريخ الكتابة، فإنني أعرض عليكم المصنفات المهمة في أبرز العلوم والفنون مشيرًا إلى
أصحابها كلما دعت الضرورة ذلك آخذًا بعين الاعتبار المؤلفين الذين توفاهم الله عام 215
هجرية فما قبل مجتهدًا في أن المؤلفات التي سأتناولها صنفت قبل نهاية القرن الثاني الهجري،
مهم ً لا كثيرًا من الكتب لأن أصحابها توفوا بعد عام 215 هجرية على الرغم من احتمال أنهم
صنفوا كتبهم قبل أفول شمس القرن الثاني الهجري.
1 الأنساب
كان من أوائل ما عنوا به من معارفهم العربية الخالصة أخبار آبائهم في الجاهلية وأنسابهم
وأشعارهم، ومن ثم كثر بينهم علماء الأنساب، وأصحاب الأخبار، ومن أشهرهم د ْ غَفل بن حنظلة
السدوسي المتوفى عام 70 هجرية، وله مجالس عند معاوية د ونت في كتاب له اسمه ((التضافر
.( والتناصر)) ( 15
ومن ذلك هشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى عام 204 هجرية وهو المكنى بابن
السائب الكلبي، كان نسابة كأبيه ابن السائب، وقد ترك تآليف عديدة تتصل بالأنساب منها كتاب
الجمهرة وهو المعروف بجمهرة أنساب العرب، ومنها المثالب، وبيوتات قريش، والكنى،
وبيوتات اليمن، كما أن له كتابًا في أنساب الخيل باسم ( نسب الخيل )
2 التاريخ والمغازي
بدأت منذ القرن الأول عملية تدوين مغازي الرسول (ص)، وهنا أشير إلى أن عمر بن
الخطاب (رض)هو واضع التقويم الهجري حتى غدا عنصرًا حيويًا في نشأة الفكرة التاريخية،
وعمودًا فِقْريًا للدراسات التاريخية.
ومن أقدم من كتب في هذا الصدد كعب الأحبار المتوفى عام 32 هجرية وكان من يهود اليمن
، وقد طبع له في القرن الماضي كتاب بمطبعة بولاق تحت عنوان ( في حديث ذي الكِ ْ فل )، ثم
نرى معاوية حين استقدم عبيد بن َ شرِية الجرهمي اليمني ليحدثه
في مجالسه عن أخبار ملوك العرب الماضين، وأمر معاوية بعض غلمانه بكتابة ما كان يسرده
من تاريخهم، فتألف من ذلك كتاب ( أخبار الأمم الماضية ) وكان متداو ً لا في عصر المسعودي
16 )، وقد طبع في حيدر آباد تحت عنوان ( أخبار عبيد بن َ شرِية الجرهمي في أخبار اليمن )
وأشعارها وأنسابها )
ومن نمط هذا الكتاب ( كتاب التيجان ) لوهب بن منبه المتوفى عام 114 هجرية وهو يتحدث
عن ملوك حمير والقرون الغابرة. ولوهب أيضًا كتاب ( المبتدأ في الأمم الخالية ) وكتاب (
قصص الأنبياء ) وهو موجود في مكتبة بلدية الإسكندرية( 17 ) وله كذلك ( أحاديث الأنبياء
والعباد ).
ونجد عروة بن الزبير المتوفى عام 94 هجرية وهو فقيه ومحدث مشهور وكان مؤسس
دراسة المغازي إذ كان أول من ألف كتابًا في المغازي، وكذلك فعل أبان بن عثمان بن عفان،
( وقد وصل منها مقتبسات أوردها الطبري والواقدي وابن كثير وغيرهم( 18
ونجد كذلك ال زهر ي محمد بن مسلم المتوفى عام 124 هجرية قد وضع كتابًا في المغازي
( مستخدمًا تعبير ( السيرة ) وقد أيد ذلك حاجي خليفة في كشف الظنون( 19
ولا بد من الإشارة إلى ما تركته لنا الأخبار عن عوانة بن الحكم المتوفى عام 147 هجرية
وعمرو بن العلاء المتوفى عام 154 هجرية، وحماد الراوية المتوفى عام 156 هجرية، وأبي
مخنف المتوفى عام 157 هجرية وسيف بن عمر المتوفى عام 180 هجرية.
3 الشعر والأدب
تنوعت أعمال الرواة في تدوينهم للشعر العربي وجمعهم لأشتاته، بعد أن تلقوه من أفواه
رواة القبائل ومن الأعراب في البوادي، بل كان الأعراب أنفسهم يفدون أحيانًا على الحواضر ؛
ليأخذ عنهم الرواة والعلماء: الشعر واللغة والأخبار والأيام.
وقد اتجه قسم من هؤلاء الرواة إلى جمع دواوين الشعراء، كل شاعر على حدة، ومنهم من
اتجه إلى جمع أشعار قبائل معينة، كل قبيلة في ديوان مستقل، ومنهم من اتجه إلى تصنيف ما
يسمى بكتب الاختيار.
وهنا سأقف عند ما يحدده البحث لي أي حتى نهاية القرن الثاني الهجري:
1 المفضليات: لعلّ أقدم مجموعة شعرية وصلتنا مما صنف في القرن الثاني الهجري
كتاب المفضليات لمصنفه المفضل بن محمد الضبي الراوية الكوفي المشهور المتوفى عام 168
هجرية والذي كان من أعلام عصره في العربية والشعر والأخبار.
للمفضليات منزلة كبرى في الأدب العربي، فهي إلى كونها أقدم مجموعة من نوعها في
الشعر العربي، تمتاز بميزات كثيرة، لعل أبرزها أنها لا تض م من الأشعار إلا ما كان قديمًا، فهي
تحتوي على 130 قصيدة لستة وستين شاعرًا عاشوا وماتوا في الجاهلية، وليس بينهم إلا عدد
قليل من المخضرمين والإسلاميين الأولين.
ومن ميزاتها أيضًا أن القصائد في هذه المجموعة قد أُثبتت بتمامها، ولم يعمد المفضل إلى
الإختيار والتفضيل بين أبيات القصيدة الواحدة، ومن أهم ما تمتاز به هذه المجموعة أن اسم
مؤلفها كان أبدًا موضع الاحترام، فلم يطعن عليه أحد من معاصريه، أو ممن جاء بعد في أمانته
وصدقه؛ على كثرة من طعن عليه من رواة الشعر في ذلك العصر، بل المعروف المشهور أن
.( المفضل كان من أوائل الذين تنبهوا، ونبهوا على بعض محاولات الرواة الآثمة( 20
2 نقائض جرير والفرزدق: جمعها وشرحها أبو عبيدة، معمر بن المثنى المتوفى عام
209 هجرية، واشتهر هذا الكتاب باسم كتاب النقائض، وهو يضم القصائد الهجائية والفخرية
.( التي نظمها ذانك الشاعران الأمويان، ورد كل منهما على خصمه( 21
وفي هذا المجال أجد من الضرورة بمكان أن أشير إلى كتاب ( رسالة الصحابة ) لابن المقفع
المتوفى عام 142 هجرية، وهو موجه إلى الخليفة المنصور محاو ً لا تقديم النصح له في مشاكل
( متعددة كالنظام القضائي ، والنظم الإدارية بأسلوب أدبي بليغ( 22
4 اللغة والأمثال:
اللغة نظام اجتماعي خاضع لتأثير الزمان والمكان، وكلما تعاقبت الأيام وجدنا فروقًا بين اللغة
التي يتكلمها الأقدمون، واللغة التي يتكلمها المعاصرون، ولاسيما الألفاظ والتراكيب، لأن اللغة
أيضًا كائن حي يخضع لعوامل النشوء والارتقاء،والتبدل والتطور، فتولد كلمات جديدة، وتموت
أخرى قديمة، و تحيا أساليب كانت مندثرة، وتضمحل أخرى كانت شائعة ذائعة. وهذا هو شأن
اللغة العربية، التي لا تخرج عن تلك القوانين التي تنتظم اللغات جميعًا.
وربما اختلفت اللغة العربية عن سائر اللغات الأخرى في عدة ظواهر برزت فيها أكثر من
غيرها كالمترادفات، والأضداد، والمجاز، ومثلثات الكلام، لارتباط هذه اللغة بحياة العرب
الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والعلمية إلى جانب تعدد اللهجات عندهم، تبعًا لاختلاف القبائل
العدنانية والقحطانية التي لم تكن على درجة واحدة من الفصاحة وإن كانت قريش أفصحها.
كما تجدر الإشارة إلى مرحلة تدوين ألفاظ اللغة العربية في رسائل متفرقة صغيرة محدودة
الموضوع مبنية على معنى من المعاني أو على حرف من الحروف، وقد ذابت كلها في المعاجم
الجامعة التي ألفت فيما بعد. وقد و صَلنا كثير من الرسائل التي تمثل هذه المرحلة، فلأبي زيد
الأنصاري صاحب كتاب النوادر الذي سأشير إليه لاحقًا عدد من الرسائل اللغوية نحو: كتاب
المطر، وكتاب اللبأ واللبن، كما أن لمعاصره الأصمعي المتوفى عام 216 هجرية وهو خارج
نطاق الدراسة رسائل كثيرة نحو: كتاب الإبل وكتاب الخيل وكتاب الشاء وكتاب أسماء
الوحوش وصفاتها وكتاب خلق الإنسان وكتاب النبات والشجر. وهناك كتاب الصفات للنضر بن
شميل المتوفى عام 204 هجرية وكتاب الزرع لأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى عام 210
هجرية.
وهناك كتب أخرى جمعت فيها الألفاظ تبعًا لأحد حروف أصولها؛فيقال كتاب الخاء وكتاب
الجيم وهكذا، ومن أشهر ما وصلنا كتاب الهمز لأبي زيد الأنصاري أيضًا.
أبدأ أو ً لا بكتب النوادر ؛ لأنها تقوم على جمع الألفاظ الغريبة والنادرة ومعرفة معناها
ومواضع استعمالها وقد صنع أبو عمرو بن العلاء المتوفى عام 154 هجرية، والكسائي المتوفى
عام 189 هجرية، وأبو محمد اليزيدي المتوفى عام 202 هجرية، وأبو عمرو الشيباني المتوفى
عام 205 هجرية، والفراء المتوفى عام 207 هجرية، وأبو زيد الأنصاري المتوفى عام
( 215 هجرية كتبًا تحمل اسم ( النوادر)، وقد ذكرهم ابن النديم في الفهرست( 23
كتب الغريبين: والغريبان: غريب القرآن، وغريب الحديث.وكتب الغريبين: هي الكتب التي
تعنى بجمع الألفاظ التي تبدو غريبة على القارئ في القرآن الكريم أو الحديث الشريف، وأبرز
هذه الكتب غريب القرآن لمؤرج السدوسي المتوفى عام 195 هجرية، وغريب الحديث لقطرب
.( المتوفى عام 206 هجرية، وأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى عام 210 ه( 24
كتب الأضداد : وهي التي تعنى بكلمات تستعمل كل منها بمعنيين متضادين، مثل ( باع ) يكون
على المعنى المعروف عند الناس، ويكون بمعنى ابتاع واشترى، ومثل ( ال ضعف ) فيكون
ضعف الشيء مثله، ويكون مثليه، وكذلك ( الغريم )الذي له الدين، والذي عليه الدين أيضًا، أي
الدائن والمدين، ومن ذلك ( المأتم ) ويطلق على النساء المجتمعات في الحزن أو في الفرح.
والسليم على السالم الصحيح الجسم وعلى الملدوغ الذي نهشته الحية تفاؤ ً لا بسلامته من
اللدغة.
وأصحاب هذه الفئة من الكتب هم من المتأخرين، ولعل أقدمهم الأصمعي المتوفى عام
( 216 ه( 25
كتب اللحن: وهي التي تعنى بتقويم اللسان بعد أن سرى الفساد إلى سلائق العرب، ولغتهم
التي يتكلمونها بعد اختلاطهم بالأعاجم منذ أوائل العصر الإسلامي.
في البدء اقتصر تصحيح اللحن على مجالس العلماء والأدباء وما شاكلها بصورة شفهية.
ويعد كتاب ( ما تلحن فيه العوام ) للكسائي المتوفى عام 189 ه أقدم ما وصل إلينا من الكتب
في هذا الموضوع، وتبعته في مثل هذه التسمية تقريبًا كتب كثيرة مثل ( ما تلحن فيه العامة )
.( لأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى عام 208 ه( 26
وهناك كتب محدودة الموضوع بنيت على ظاهرة لغوية، أو على معنى من المعاني ، وهي
كثيرة جدًا لعل أبرزها : كتب الحيوان والنبات التي أشرت إليها في مقدمة حديثي عن كتب
اللغة. 3 2
وهناك مثلثات الكلام، ذلك أن في اللغة العربية ألفاظًا وردت كل منها على ثلاث حركات في
الحرف الأول منها، بمعان مختلفة، نحو: ال َ غمر والغِمر وال ُ غمر( 27 )، وال َ كلام والكِلام
وال ُ كلام( 28 )، وكان قطرب النحوي المتوفى عام 206 ه أول من جمع المثلث في اللغة في كتيب
( صغير لكن له فضيل َ ة السبق( 29
صنف آخر من التصانيف صنعها قطرب المتوفى عام 206 ه والفراء المتوفى عام 207 ه
وأبو زيد الأنصاري المتوفى عام 215 ه وهي ما يسمى بكتب ( َفعلَ و أَفْ علَ ) حيث تعنى
بتصنيف الأفعال الثلاثية المجردة التي وزنها َفعلَ والتي تزاد الهمزة في أولها فيصبح وزنها
أَفْعلَ وعندئذ إما أن يختلف معناها، نحو: َ ش رَقت الشمس، إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت،
و صَفت، وإما أن يبقى كما هو، نحو: بلَّ من مرضه، وأَبلَّ إذا برأَ و ُ شفِ ي.
وبعضهم جعل الكلام على َف عَلت وأَفْ عَلت في فصول خاصة ضمن أبحاث كتبهم مثل
( سيبويه المتوفى عام 180 ه ( 30
5 المعجمات
وهي نوعان؛ معاجم المعاني ومعاجم الألفاظ ، وقد تمثلت معاجم المعاني في رسائل صغيرة
يتناول كل منها موضوعًا واحدًا أو أكثر، مثل: الحيوان ، والنبات، والمطر، وخلق الإنسان،
ونذكر منها كتاب السلاح للنضر بن شميل المتوفى عام 204 ه، والزرع لأبي عبيدة المتوفى
عام 210 ه ، والشجر لأبي زيد الأنصاري المتوفى عام 215 ه ، وكنت قد أشرت إلى ذلك في
.( مجال اللغة بالتفصيل( 31
أما النوع الثاني من معاجم الألفاظ فهو يبرز عند رائد هذه الطريقة الخليل بن أحمد الفراهيدي
المتوفى عام 175 ه الذي أعرض عن الترتيب الهجائي لأنه مبني أص ً لا على الرسم والكتابة في
حين أن اللغة قوامها النطق والأداء المبنيان على الصوت وخروج الكلام بحروفه من داخل الفم.
وكانت الخطوة التالية لدى الخليل حصر مفردات اللغة العربية التي لم يجمعها جامع، ولا
استقصاها أحد من قبل، فلجأ إلى فكرة رياضية فذة تقوم على اعتماد مبدأ التقاليب، وهو توليد
كلمة من كلمة بتغيير مواضع الحروف فيها، وهذا ما يعرف بالاشتقاق الكبير.فالأصل الثنائي
ج ر تخرج منه صورتان هما ( جر ) و ( رج )، والأصل الثلاثي يكون منه عادة ستة تقاليب،
فتقاليب ب ح ر هي بحر برح حبر حرب ربح رحب ، والأصل الرباعي مثل عبقر يخرج منه
أربع وعشرون صورة، أما الخماسي سفرجل ففيه مئة وعشرون صورة. ولا شيء من الأصول
فوق الخماسي، وبهذه الطريقة الرياضية استطاع الخليل أن يتوصل إلى حصر ألفاظ اللغة العربية
من الناحية النظرية باثني عشر مليون كلمة تقريبًا؛ لكنها ليست كلها مستعملة عند العرب فهناك
تقاليب كثيرة مهملة، ولاسيما في الأصلين :الرباعي والخماسي.فكان الخليل يثبت في معجمه ما
( كان مستعم ً لا، ويغفل ما كان مهم ً لا في الاستعمال( 32
وعلى الرغم من تشكيك بعضهم في نسبة معجم العين للخليل فإنه يبقى رائد المعاجم العربية
والمنهل الثر الذي نهلت منه المعاجم التي ُاّلفت بعده، كما اختصره فيما بعد النضر بن شميل
.( المتوفى عام 203 ه صاحب ( المدخل إلى كتاب العين )( 33
ثم جاء كتاب ( الجيم )لأبي عمرو الشيباني المتوفى عام 206 ه وس مي معجمه ( الجيم )
ومعناه الديباج تشبيهًا له بالديباج لحسنه، وهو يراعي الحرف الأول للكلمة ولهذا نجد مواد
حرف الهمزة تتوالى هكذا: أوق، ألب، أفق، أزح، أنف، أرب، أخذ، وهكذا، إضافة إلى أنه يهتم
.( بالألفاظ الغريبة في شعر شعراء ثمانين قبيلة عربية( 34
6 النحو
بعد البدايات النحوية التي جاءت على شكل ملحوظات نقلها إلينا الرواة يبرز لنا اسم عيسى
بن عمر المتوفى عام 149 ه الذي ترك كتابين هما ( الجامع ) و ( الكامل ) وضمنهما جلّ
الأبواب النحوية التي اتضحت أصولها في مطلع القرن الثاني الهجري، وفي ذلك يقول الخليل بن
أحمد :
ذهب النحو جميعًا كّله غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال، وهذا جامع فهما للناس شمس وقمر
ومما لا شك فيه أن عيسى بن عمر تع رض في كتابيه لكثير من الأبواب النحوية، إن لم يكن
معظمها( 35 )، وهذا يظهر جليًا من خلال كتاب سيبويه حيث يشير كثيرًا إلى عيسى بن عمر
وآرائه النحوية.
بعد ذلك نرى يونس بن حبيب المتوفى عام 183 ه حيث كان له عدد من التصانيف ذكر منها
المؤرخون سبعة هي: معاني القرآن الكبير، ومعاني القرآن الصغير، وكتاب النوادر الكبير،
وكتاب النوادر الصغير،وذكروا له كتابًا في اللغات، وآخر في الأمثال، وآخر في القياس في
النحو، وتظهر هذه المعالجات النحوية، والقراءات القرآنية بما تحويه من آراء؛ تظهر جلي ً ة
واضح ً ة من خلال ما يورده سيبويه وغيره عن يونس بن حبيب.
ثم يظهر لنا كتاب سيبويه المتوفى عام 180 ه ، وهو أعظم ما وصلنا من الكتب الأصيلة في
النحو والصرف، وأكثرها شهرة،وقد تلقاه العلماء بالقبول والرضى منذ أن ألفه صاحبه وهو في
حداثة الشباب، وعجبوا لظهوره بصورته الرائعة مكتمل الجوانب.
لم تكن تكن مهمة سيبويه في كتابه الجمع وحسب، بل كان ذا شخصية واضحة؛ فهو يستنبط
كثيرًا من القواعد بنفسه اعتمادًا على سماعه من العرب.
ومن ميزات الكتاب عنايته بالشواهد لتثبيت الأحكام؛ وقد استشهد بالقرآن الكريم والنثر
والشعر إضافة إلى اهتمامه بأحكام القراءات والبلاغة وفقه اللغة واللهجات وقضايا تتصل بالشعر
( وصناعته( 36
7 الفقه وأصوله، والتفسير
إن عناية العرب في هذا العصر بتدوين أخبارهم الجاهلية وأنسابهم، وأشعارهم لا تقاس إلى
عنايتهم بتدوين كل ما اتصل بدينهم الحنيف، فقد تأسست في كل بلدة إسلامية مدرسة دينية
عنيت بتفسير الذكر الحكيم، ورواية الحديث الشريف،وكان الكثيرون يحرصون على تدوين ما
يسمعونه. وقد اشتهر ابن عباس المتوفى عام 68 ه في مكة بما كان يحاضر في تفسير القرآن
الكريم، وحمل عنه تفسيره نفر من التابعين، يقول ابن حنبل " بمصر صحيفة في التفسير عن
ابن عباس لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا ما كان كثيرًا( 37 )، ذلك ما جمعه فيما بعد
الفيروزأبادي وسماه تنوير المقباس في تفسير ابن عباس، ولا نكاد نصل إلى عصر عمر بن عبد
العزيز حتى نراه يأمر بتدوين الحديث، ثم نرى اهتمام الزهري المتوفى عام 124 ه ، ويذكر
جولدتسيهر أن عروة بن الزبير كانت له كتب فقه احترقت يوم ال ح رة،كما يشير إلى وجود
مختصر في الفقه اسمه ( مجموعة زيد بن علي ) في المكتبة الأمبروزية بميلانو.
ننتقل بعد ذلك إلى الإمام مالك المتوفى عام 179 ه، ( صاحب المدونة الكبرى ) التي دونها
عنه تلميذه سحنون ( عبد السلام بن سعيد التنوخي ) المتوفى عام 240 ه، والمدونة من
.( المؤلفات الأمهات في الفقه المالكي، وقد جمعت جميع أبواب الفقه وفروعه( 38
وللإمام مالك أيضًا ( الموطأ ) وهو كتاب في الفقه المالكي وفي الحديث،وهو من أوائل الكتب
التي صنفت الحديث على أبواب الفقه، ويعد بين كتب الحديث في مرتبة الصحاح، وقال فيه الإمام
.( الشافعي: " ما ظهر على الأرض كتاب بعد كتاب الله أص ح من موطأ مالك "( 39
ثم يطل علينا كتاب ( الخراج ) لأبي يوسف، يعقوب بن إبراهيم المتوفى عام 182 ه ،وهو
أحد أبرز علماء الفقه الإسلامي، وله كتاب آخر تحت عنوان ( أدب القاضي ) لا يزال
.( مخطوطًا( 40
ثم نصل إلى الإمام الشافعي المتوفى عام 204 ه
الثلاثاء، 15 ديسمبر 2009
قصة قصيرة: ليلة القبض على أسعد
ليلة القبض على أسعد
أيّار 2008 د/ أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في ساحة مبنى قديم متهالك جُمِّع صبيةٌ مراهقون من أرباب السوابق؛ لأخذ فسحة من التنفّس، أو الراحة، وهي وقت لا يتعدّى نصف الساعة يمنحه المساعد أبو أحمد لكلّ المجمَّعِين عنده في مدرسة رعاية الأحداث، عدا المذنِبين الذين يعصُون أوامر الإدارة، أو يرتكبون مخالفات مهما كان نوعها، إذ يُخْضِع أبو أحمد هؤلاءِ لنظام خاصٍّ من الفسحة لا يخلو من فنون الضغط النفسيّ والاضطهاد.
يُدخِل أبو أحمدَ نفسه داخل كرسي من الخيزران له مَسْندان جانبيّان، يرمي زنديه الضخمتين المترهلتين عليهما، ويتّخذ مكاناً قصيّاً في غرفته في "العلّية"؛ ليكون مشرفاً على باحة المدرسة، ممسكاً بيده عصا اعتاد أن يلوّح بها على الدوام، مستخدماً صوته الذي يبالغ في تخشينه؛ ليزرعَ الرهبة في النفوس، وليضبطَ هؤلاءِ القرودَ الذين شيّبوه قبل الأوان.
كان لأبي أحمدَ فريقُ عمل من رجال الشرطة مهمتهم ضبط الأمن في المدرسة، بالإضافة إلى الأكل، وأحاديث الثرثرة في سائر الأوقات، كلّ منهم يشكو همومه للآخرين، متذمراً من غلاء المعيشة، منتظراً زيادة الرواتب، وكروشهم تكبر وتكبر...؛ لأنهم لا يتورّعون عن أكل كلّ شيء يُتاح لهم إذا كان في السرّ.
تناثر الأولاد في تلك الباحة تناثر سِبحة انفرط عِقدها من عل فأخذت حبّاتها تقفز صاعدة ونازلة إلى أن تنزوي في زاوية من زوايا هذه الباحة المحدودة، تجمّع المراهقون في إحدى الزوايا حليقي الرؤوس، يجيدون السكوت والهمس ولغة العيون، لاسيّما إذا كان أبو أحمد أو أحدُ أعوانه قد سقط نظرُه عليهم. ماهر أكبرهم سنّاً وأضألهم جسماً وأنحلهم عوداً، وهو ماهر فعلاً في دخول البيوت من غير أبوابها، يقوى على حمل الأشياء إذا كانت خفيفة ثمينة ويجيد لعبة الكرّ والفرّ، من سطح إلى سطح أو من شارع إلى شرفة، بل من جيب إلى محفظة، ولا يُعجِزه باب مهما كان حصيناً، ولا خزنة مهما بدا أنّها مستعصية، لكنَّه سقط في الشرك في إحدى سرقاته لمّا وقع على الأرض فالتقطه بعض السيارة، وأشبعوه ضرباً حتّى وجد نفسه في مدرسة رعاية الأحداث هذه.
وكذلك فاضل فهو لا يحمل من اسمه نصيباً أبداً، فقد دفع به التفكّك الأسريّ إلى النظر لما هو فوق سنّه، فامتهن التردّد على أماكن الليل من صغره، يغرّر برواد الحانات حيناً ويستعطفهم حيناً آخر؛ ليحصل على مصروفه الذي لم يجد أهلاً يوفّرونه له، فلجأ إلى التعلّم الذاتي، وكثيراً ما كان يحمل حقائب ثياب بنات الليل، وقد يذهب معهنّ إلى البيت إتماماً لعمله إلى أن أوقعه حظّه العاثر عندما دوهم منزل إحداهنّ، وألقي القبض على من فيه ورُمي في مدرسة التهذيب والإصلاح هذه.
في ليلة باردة ممطرة عاد المساعد أبو أحمد بعد منتصف الليل إلى مدرسة الأحداث، وقام بجولة في أنحائها على عجل، وتفقّد بما تبقّى من روح في بطاريات كشّافه الجدرانَ الخلفية للمدرسة وهي جدران تبعد مترين تقريباً عن نوافذ غرف نوم الأحداث؛ ليجد جسماً ممدّداً بين النافذة والجدار العالي، فرك عينيه ثانية وثالثة، ومسح زجاج الكشّاف من المطر بطرف معطفه السميك وعبث بالبطاريات يحرّكها على عجل، وسلّط بصيص ضوء الكشّاف؛ ليكتشف أنّ الممدّد من النافذة إلى الجدار هو باب غرفة نوم القرود، وبلمح البصر نسي وزنه وبدانته، وقفز الدرجات التي توصله إلى الطابق العلويّ قفزاً غير معهود منذ أن كان في دورة أغرار الشرطة...يا للهول لقد فكّوا إحدى فُرْضَتَيْ[1] باب غرفتهم الطويل، وهذا شأن أبواب المباني القديمة كلّها، ومدّوه بين الجدار والنافذة، وقالوا لرفاقهم أن يعبروا.
ليلة طويلة قضاها أبو أحمد مع بعض عناصره المناوبين إلى أن استُدعِي محقّقون آخرون يستجوبون الأحداث حيث خلصت التحقيقات إلى أنّ الهاربين ثلاثة: ماهر، وهو البارع في فنون الخفّة، ومستلزماتها وفاضل الذي أدمن مصاحبة بنات الهوى، يقضي مصالحهنّ دون أن يقضيْن له مصالحه، ومعهم أسعد، وهو فتى قليل الكلام، بل قليل القدرة على الكلام، فقد ساقته الظروف إلى مكان لم يألفه من قبلُ، إذ كانت معاشرته لأولاد السوء في حارته ـ وهو الطيّب إلى حدّ السذاجة ـ سبباً جعل الأولاد يجرّون رِجله معهم مدّعين بأنّه كان معهم وقت الدخول إلى إدارة مدرسة حيّهم ليلاً عن طريق الكسر، والخلع؛ لسرقة الأسئلة وبيعها، فوجد نفسه في أحضان أولاد سوء متمرسين منذ الصغر في أمور لم يرها مع أولاد حارته السيّئين.
خطّط المراهقون الثلاثة لهذا الهروب الكبير منذ مدّة حيث كانوا يتحدّثون باستمرار عن رغبتهم في الهرب من المدرسة فلكلّ منهم دوافعه التي شبّ عليها إلاّ أسعد فلم يفصح يوماً عما يختلج في نفسه، لقد حضّر كلّ منهم أغراضه وحاجياته خلسة، ولم ينس أسعد صرّته الصغيرة التي وضع فيها بعض الفاكهة التي كان يحلو له أن يخبّئها على الدوام.
انتشرت عيون الأمن في كلّ مكان، لاسيما في المنطقة القريبة من المدرسة، نبشت العيون الساهرة كلّ مراتع الليل، وأماكن الازدحام وكلّ الزوايا المعتمة الرطبة في جسد المدينة الكبيرة بحثاً عن المراهقين الثلاثة، مستندين إلى إفادات بعض زملائهم التي أشارت إلى أنهم يتردّدون إلى مواطن محدّدة موبوءة، واضعين في اعتباراتهم احتمال تفرّقهم عن بعضهم بالإضافة إلى قدرتهم على التخفّي والاختباء والهرب.
عُرضت صورهم على كثير من أصحاب المحالّ التجارية، والمقاهي والأماكن التي يعتقد أنهم يأنسون لها. وجاءتهم إشارة من أحد عيونهم أنّ واحداً من هؤلاء المراهقين يتردّد باستمرار على أحد المباني القديمة، بل أحد البيوت فيها؛ بيتٍ لا جلبة فيه ولا ساكنين. روقِب البيت عن كثب طوال اليوم فلم يجدِ العسس فيه حركة ولا بركة... إلى أن خيّم الظلام في تلك الليلة الشتوية القاسية، وعيون من هم في خدمة الشعب متسمّرة تراقب باب البناية الحديديّ الكبير إلى أن دلف من بعيد مراهق رسم الضوء المنبعث من عمود الكهرباء في زاوية الشارع شبحه على بركة الماء في الأرض، وانسلّ مسرعاً دافعاً باب البناية بيده مصدراً صوتاً يضفي على العتمة رهبة وخوفاً، ثوانٍ والمراهق داخل البيت الذي لاحركة فيه على مدار الساعة يغلق خلفه مزلاج الباب مطمئناً إلى أنه لا أحد يتبعه.
بإيماءات وإشارات ومصطلحات تنادت عناصر الأمن يصحبهم أبو أحمد لتأتي الأوامر باقتحام الشِّقَّة قبل فوات الأوان مع أخذ الحيطة والحذر من هذا المراهق الذي قد يكون مسلحاً فيؤذي أحد العناصر أو يؤذي نفسه فتنقطعَ خيوط بقية العصابة، تسلّقوا درج العمارة المعتم، منتشرين على مفاصله مستعدّين لكلّ طارئ، واقترب أبو أحمد من باب الشِّقَّة يسترق السمع فتهادت إلى مسمعه همسات وآهات وكلمات وتمتمات لم يستطع أن يفكّ رموزها لكنّه بفطنته التي اكتسبها وخبرته في ملاحقة المجرمين وشذاذ الآفاق تيقن أنه وضع يده على أفراد المجموعة كاملين، ويكون بذلك قد كفّر عن تقصيره في حفظ أمن المدرسة أمام المسؤولين، ومن يدري ربّما يعلّقون على صدره وساماً مكافأة له على دهائه وسرعة تحركه...صور متلاحقة وأحلام دغدغت خياله جعلته يعطي الأوامر بكسر باب البيت، ركلةٌ واحدة جعلت الباب يترنح تحت أقدام عناصر الاقتحام؛ ليجدوا أسعداً جاثياً على ركبة ونصف يفكّ صرّته؛ ليطعم بعض ما خبّأه فيها لأمّه المقعدة.
[1] الفُرْضَة : ج فُرَض و فِراض وهي الخشبة التي يدور عليها الباب
أيّار 2008 د/ أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في ساحة مبنى قديم متهالك جُمِّع صبيةٌ مراهقون من أرباب السوابق؛ لأخذ فسحة من التنفّس، أو الراحة، وهي وقت لا يتعدّى نصف الساعة يمنحه المساعد أبو أحمد لكلّ المجمَّعِين عنده في مدرسة رعاية الأحداث، عدا المذنِبين الذين يعصُون أوامر الإدارة، أو يرتكبون مخالفات مهما كان نوعها، إذ يُخْضِع أبو أحمد هؤلاءِ لنظام خاصٍّ من الفسحة لا يخلو من فنون الضغط النفسيّ والاضطهاد.
يُدخِل أبو أحمدَ نفسه داخل كرسي من الخيزران له مَسْندان جانبيّان، يرمي زنديه الضخمتين المترهلتين عليهما، ويتّخذ مكاناً قصيّاً في غرفته في "العلّية"؛ ليكون مشرفاً على باحة المدرسة، ممسكاً بيده عصا اعتاد أن يلوّح بها على الدوام، مستخدماً صوته الذي يبالغ في تخشينه؛ ليزرعَ الرهبة في النفوس، وليضبطَ هؤلاءِ القرودَ الذين شيّبوه قبل الأوان.
كان لأبي أحمدَ فريقُ عمل من رجال الشرطة مهمتهم ضبط الأمن في المدرسة، بالإضافة إلى الأكل، وأحاديث الثرثرة في سائر الأوقات، كلّ منهم يشكو همومه للآخرين، متذمراً من غلاء المعيشة، منتظراً زيادة الرواتب، وكروشهم تكبر وتكبر...؛ لأنهم لا يتورّعون عن أكل كلّ شيء يُتاح لهم إذا كان في السرّ.
تناثر الأولاد في تلك الباحة تناثر سِبحة انفرط عِقدها من عل فأخذت حبّاتها تقفز صاعدة ونازلة إلى أن تنزوي في زاوية من زوايا هذه الباحة المحدودة، تجمّع المراهقون في إحدى الزوايا حليقي الرؤوس، يجيدون السكوت والهمس ولغة العيون، لاسيّما إذا كان أبو أحمد أو أحدُ أعوانه قد سقط نظرُه عليهم. ماهر أكبرهم سنّاً وأضألهم جسماً وأنحلهم عوداً، وهو ماهر فعلاً في دخول البيوت من غير أبوابها، يقوى على حمل الأشياء إذا كانت خفيفة ثمينة ويجيد لعبة الكرّ والفرّ، من سطح إلى سطح أو من شارع إلى شرفة، بل من جيب إلى محفظة، ولا يُعجِزه باب مهما كان حصيناً، ولا خزنة مهما بدا أنّها مستعصية، لكنَّه سقط في الشرك في إحدى سرقاته لمّا وقع على الأرض فالتقطه بعض السيارة، وأشبعوه ضرباً حتّى وجد نفسه في مدرسة رعاية الأحداث هذه.
وكذلك فاضل فهو لا يحمل من اسمه نصيباً أبداً، فقد دفع به التفكّك الأسريّ إلى النظر لما هو فوق سنّه، فامتهن التردّد على أماكن الليل من صغره، يغرّر برواد الحانات حيناً ويستعطفهم حيناً آخر؛ ليحصل على مصروفه الذي لم يجد أهلاً يوفّرونه له، فلجأ إلى التعلّم الذاتي، وكثيراً ما كان يحمل حقائب ثياب بنات الليل، وقد يذهب معهنّ إلى البيت إتماماً لعمله إلى أن أوقعه حظّه العاثر عندما دوهم منزل إحداهنّ، وألقي القبض على من فيه ورُمي في مدرسة التهذيب والإصلاح هذه.
في ليلة باردة ممطرة عاد المساعد أبو أحمد بعد منتصف الليل إلى مدرسة الأحداث، وقام بجولة في أنحائها على عجل، وتفقّد بما تبقّى من روح في بطاريات كشّافه الجدرانَ الخلفية للمدرسة وهي جدران تبعد مترين تقريباً عن نوافذ غرف نوم الأحداث؛ ليجد جسماً ممدّداً بين النافذة والجدار العالي، فرك عينيه ثانية وثالثة، ومسح زجاج الكشّاف من المطر بطرف معطفه السميك وعبث بالبطاريات يحرّكها على عجل، وسلّط بصيص ضوء الكشّاف؛ ليكتشف أنّ الممدّد من النافذة إلى الجدار هو باب غرفة نوم القرود، وبلمح البصر نسي وزنه وبدانته، وقفز الدرجات التي توصله إلى الطابق العلويّ قفزاً غير معهود منذ أن كان في دورة أغرار الشرطة...يا للهول لقد فكّوا إحدى فُرْضَتَيْ[1] باب غرفتهم الطويل، وهذا شأن أبواب المباني القديمة كلّها، ومدّوه بين الجدار والنافذة، وقالوا لرفاقهم أن يعبروا.
ليلة طويلة قضاها أبو أحمد مع بعض عناصره المناوبين إلى أن استُدعِي محقّقون آخرون يستجوبون الأحداث حيث خلصت التحقيقات إلى أنّ الهاربين ثلاثة: ماهر، وهو البارع في فنون الخفّة، ومستلزماتها وفاضل الذي أدمن مصاحبة بنات الهوى، يقضي مصالحهنّ دون أن يقضيْن له مصالحه، ومعهم أسعد، وهو فتى قليل الكلام، بل قليل القدرة على الكلام، فقد ساقته الظروف إلى مكان لم يألفه من قبلُ، إذ كانت معاشرته لأولاد السوء في حارته ـ وهو الطيّب إلى حدّ السذاجة ـ سبباً جعل الأولاد يجرّون رِجله معهم مدّعين بأنّه كان معهم وقت الدخول إلى إدارة مدرسة حيّهم ليلاً عن طريق الكسر، والخلع؛ لسرقة الأسئلة وبيعها، فوجد نفسه في أحضان أولاد سوء متمرسين منذ الصغر في أمور لم يرها مع أولاد حارته السيّئين.
خطّط المراهقون الثلاثة لهذا الهروب الكبير منذ مدّة حيث كانوا يتحدّثون باستمرار عن رغبتهم في الهرب من المدرسة فلكلّ منهم دوافعه التي شبّ عليها إلاّ أسعد فلم يفصح يوماً عما يختلج في نفسه، لقد حضّر كلّ منهم أغراضه وحاجياته خلسة، ولم ينس أسعد صرّته الصغيرة التي وضع فيها بعض الفاكهة التي كان يحلو له أن يخبّئها على الدوام.
انتشرت عيون الأمن في كلّ مكان، لاسيما في المنطقة القريبة من المدرسة، نبشت العيون الساهرة كلّ مراتع الليل، وأماكن الازدحام وكلّ الزوايا المعتمة الرطبة في جسد المدينة الكبيرة بحثاً عن المراهقين الثلاثة، مستندين إلى إفادات بعض زملائهم التي أشارت إلى أنهم يتردّدون إلى مواطن محدّدة موبوءة، واضعين في اعتباراتهم احتمال تفرّقهم عن بعضهم بالإضافة إلى قدرتهم على التخفّي والاختباء والهرب.
عُرضت صورهم على كثير من أصحاب المحالّ التجارية، والمقاهي والأماكن التي يعتقد أنهم يأنسون لها. وجاءتهم إشارة من أحد عيونهم أنّ واحداً من هؤلاء المراهقين يتردّد باستمرار على أحد المباني القديمة، بل أحد البيوت فيها؛ بيتٍ لا جلبة فيه ولا ساكنين. روقِب البيت عن كثب طوال اليوم فلم يجدِ العسس فيه حركة ولا بركة... إلى أن خيّم الظلام في تلك الليلة الشتوية القاسية، وعيون من هم في خدمة الشعب متسمّرة تراقب باب البناية الحديديّ الكبير إلى أن دلف من بعيد مراهق رسم الضوء المنبعث من عمود الكهرباء في زاوية الشارع شبحه على بركة الماء في الأرض، وانسلّ مسرعاً دافعاً باب البناية بيده مصدراً صوتاً يضفي على العتمة رهبة وخوفاً، ثوانٍ والمراهق داخل البيت الذي لاحركة فيه على مدار الساعة يغلق خلفه مزلاج الباب مطمئناً إلى أنه لا أحد يتبعه.
بإيماءات وإشارات ومصطلحات تنادت عناصر الأمن يصحبهم أبو أحمد لتأتي الأوامر باقتحام الشِّقَّة قبل فوات الأوان مع أخذ الحيطة والحذر من هذا المراهق الذي قد يكون مسلحاً فيؤذي أحد العناصر أو يؤذي نفسه فتنقطعَ خيوط بقية العصابة، تسلّقوا درج العمارة المعتم، منتشرين على مفاصله مستعدّين لكلّ طارئ، واقترب أبو أحمد من باب الشِّقَّة يسترق السمع فتهادت إلى مسمعه همسات وآهات وكلمات وتمتمات لم يستطع أن يفكّ رموزها لكنّه بفطنته التي اكتسبها وخبرته في ملاحقة المجرمين وشذاذ الآفاق تيقن أنه وضع يده على أفراد المجموعة كاملين، ويكون بذلك قد كفّر عن تقصيره في حفظ أمن المدرسة أمام المسؤولين، ومن يدري ربّما يعلّقون على صدره وساماً مكافأة له على دهائه وسرعة تحركه...صور متلاحقة وأحلام دغدغت خياله جعلته يعطي الأوامر بكسر باب البيت، ركلةٌ واحدة جعلت الباب يترنح تحت أقدام عناصر الاقتحام؛ ليجدوا أسعداً جاثياً على ركبة ونصف يفكّ صرّته؛ ليطعم بعض ما خبّأه فيها لأمّه المقعدة.
[1] الفُرْضَة : ج فُرَض و فِراض وهي الخشبة التي يدور عليها الباب
قصة قصيرة: شهر العسل
شهر العسل
20/6/2008 د/أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد رحلة طويلة ماتعة، من شاطئ المتوسط الشرقيّ إلى الطرف الشماليّ الغربيّ منه حطّت بنا عصا الترحال في مرسيليا، المدينة الغافية في أحضان الطبيعة الساحرة التي تحيط بها، المستلقية على مياه البحر لتداعب بقدميها أمواجه المتلاحقة المتراقصة، توجّهت إلى فندق راق، لي عهد سابق به، أُخذت الحقائب منّا إلى غرفة محجوزة منذ مدّة، مطلّة على أبرز ساحات المدينة، يحيط بها الوسط التجاري للمدينة، لا سيما شركات الملاحة البحرية.
استرحنا قليلاً من وعثاء السفر، ثمّ نزلنا إلى الشركة التي تتكفّل بنقلنا وسيارتنا إلى الضفّة الأخرى من المتوسط إلى الجزائر، دقائق جاء بعدها دورنا لنجلس قبالة الموظف المختصّ؛ ليحجز لنا في الباخرة غرفة مناسبة لعروسين في شهر العسل، ومعنا في الوقت نفسه سيارتُنا الخاصّة، دقّق الموظّف في أوراق السيارة وبادرني قائلاً:
ـ لا مشكلة، فالغرفة الأنيقة بانتظاركم لكنّ أماكن السيارات في الباخرة ممتلئة.
ـ وما العمل في هذه الحالة؟
ـ نترك السيارة عندنا، ثمّ نرسلها لكما في باخرة أخرى بعد ثلاثة أيّام.
ودون تفكير، لأنني لا أملك البديل أجبته:
ـ لا بأس سيّدي، فليكن الأمر كما هو متوفّر.
ـ لكنّ هذا سيكلّفك مبلغاً إضافيّاً مقابل مبيت السيارة عندنا.
أعدت حساباتي بسرعة، وأدركت أن المبلغ الإضافي لا يثقل كاهل ميزانيتنا، وقلت له:
ـ حسناً سيدي، أتمم الإجراءات، واحجز لنا.
دقائق معدودة، ثمّ قال لي:
ـ المبلغ الإجمالي لكما وللسيارة هو ثلاثة آلاف فرنك فرنسيّ.
بلعت ريقي عدّة مرات، وقلت له:
ولكنك قلت لي قبل مدّة بأن التكلفة ألفا فرنك بالضبط، فما الذي جرى لتغيّر المبلغ.
ـ لقد ارتفعت أجور النقل قبل شهر يا سيّدي، وأنت لم تحجز آنذاك، بل سألت عن
الأجور فقط.
ـ ولكنني لا أملك سوى ألفي فرنك.
ـ هذه مشكلتك، كلّ ما أستطيع تقديمه هو إمهالك لتثبيت الحجز حتى الثامنة مساء؛
أي بعد ثلاث ساعات، لأنّك تعرف أن الباخرة ستبحر في الثامنة من صباح الغد.
شكرته بعد أن استبدلت بغرفتي المحجوزة في رحم الباخرة كرسيين بحريين على ظهرها ـ وهو أرخص درجات السفر ـ ...خرجت مع عروسي، لتعود بي الذاكرة إلى ثلاثة أشهر سابقة، لمّا مررت بموظف الشركة وفهمت منه الأسعار وسجلّتها...وحسبت حساباتي جيدا وفق خبرتي آنذاك، وسافرت لقضاء إجازتي بين أهلي وأصحابي لأختمها بالزواج...ثمّ أخذت طريق العودة عبر تركيا أنفّذ ما قمت بتخطيطه بكل دقّة...مررت باستنبول متنقلاً بين آثارها ومتاحفها متبضّعاً بعض الأغراض والألبسة من بينها "بنطلونٌ" له جيوب مخفيّة تقيني شرّ السارقين في تركيا، تابعت طريقي غرباً نحو فرنسا، ولم أنس أن أيمّم شمال؛ لأزور كثيراً من الدول والبلدان مستمتعاً بشهر العسل، منفقاً الكثير وفق الخطة الموضوعة بدقّة كما كنت أعتقد.
خطّطت لأصل إلى مرسيليا في آخر عطلتي الصيفية بحيث يفيض معي أكثر من ألف فرنك فرنسي وهو مبلغ ممتاز آنذاك، مدرِجاً في خطتي النومَ في فندق راق حجزته مسبقاً، والأكلَ في مطاعم مناسبة، وغيرَ ذلك من الأمور التي تتناسب مع متطلبات شهر العسل.
أفقت من ذكرياتي الجميلة إلى واقعي المرير في بلد أنا فيه غريب الوجه واليد، لا اللسان، تداولت الأمر مع شريكتي، وقرّرنا أن نتناسى أننا في شهر العسل...حجز الفندق الراقي لا رجعة فيه؛ لأنه محجوز مسبّقاً، الأكل يمكن أن يقتصر على بعض "الساندوتشات" لا سيما أن الباخرة ستمخر عباب البحر في صباح اليوم التالي، وهذا يوفّر علينا كثيراً من المصروفات، وخلاصة القول أننا محتاجان إلى ألف فرنك لنقف على قدمينا، ونحن في بلد غريب، تذكرت أهلي وأصحابي وعشيرتي بكل ما يحملونه من نخوة وشهامة لا توقعني في مثل هذا الموقف الذي لا أحسد عليه، ألف فرنك دونه إهدار كرامة أو الوقوع في مأزق، أو موقف لا أدري أبعاده.
من بعيد لمحت علماً لبنانياً كبيراً يزيّن لافتة وكالة بحريّة، شعرت بأنّ بصيص أمل قد ظهر لي وأنا في سباق مع الزمن، وموظف الشركة التي ستنقلني ينتظرني...دخلنا الوكالة باعتزاز...عرضت على الأخ اللبناني أن يشتري بألف فرنك مسجلة(وهي شيء نفيس آنذاك) وما يراه مناسباً من خاتم أو اثنين أو أسوارٍ، المهم ألاّ يغبن أحدنا الآخر...يبدو أنه توجس خيفة من شابّ و شابة يعرضان هذا العرض فاعتذر بأدب وطلب إمهاله إلى اليوم التالي مع بقاء الأغراض بحوزته، وهذا أمر غير ممكن مع من يسابق الزمن...ازداد الأمر تعقيداً مع كلّ دقيقة أخسرها لأن عدم سفري في صباح اليوم التالي سيفاقم الوضع وسأحتاج إلى انتظار باخرة أخرى وما يتبع ذلك من مصاريف كبيرة، فإذا كنت عاجزاً عن تدبير ألف فرنك وأنا أملك مسجلة وكاميرا وبعض القطع الذهبية فكيف سأحصل على مبالغ أكبر...كنت في مأزق كبير، وامتحان عسير، لا بدّ أن أخرج منه لكنني لا أعرف الثمن الذي سيُدفع مقابل ذلك.
أوصلت شريكتي إلى الفندق لأبدأ رحلة البحث عن حلّ في مدينة لا شفيع لي فيها ولا عارف، أحمل على كتفي مسجلة، وفي جيبي بعض القطع الذهبية التي سأضحّي بها جميعها في سبيل خروجي من هذه الورطة، وبدأت رحلة البحث عن حلّ أقفز الشوارع قفزاً لأنني أسابق الزمن تماماً كما أسابق السراب، بلا أمل أو هدف.
رأيت من بعيد مجموعة شبان سُمْرِ الملامح فخطر في بالي أبناء جلدتي أستدرّ عطفهم، وأطلعهم على مشكلتي بكل صدق ولا شكّ في أنهم أصحاب حميّة مهما كان البلد الذي ينتمون إليه...اقتربت، ثمّ اقتربت أكثر أسترق السمع، وإذ بهم يرطنون بكلمات لا أميزها آنذاك وهي اللغة الأورديّة، فابتعدت مكسور الخاطر مهيض الجناح وعقارب الساعة تسير بسرعة كأنني في مباراة حاسمة فريقي خاسر بفارق ضئيل، وفجأة لمحت وجوها سمراء أخرى على الطرف الآخر من الشارع، اجتزته مخالفاً كلّ قواعد المرور المحترمة في تلك البلاد...شنّفت أذنيّ جيداً كي لا أصابَ بانتكاسة أخرى فيضيعَ وقتي المتسارع هباءً...سرت على بعد خطوات منهم مطبّقاً كل شروط التمركز التي أعرفها ذلك بأن أرى ولا أُرى وأن أستوعب ما أرى...تهادى إلى مسمعي أجمل كلمات سمعتها في حياتي هي فوق الغزل، والعشق، والمناجاة...سمعت: "آكو...و ماكو" يالله... أبناء الرافدين، أحباؤنا، لا شكّ قضيّتي محلولة على أعتاب نجدتهم المعهودة...اقتربت، فسلمت، فعرضت القضية عليهم، تداولوا الأمر فيما بينهم، فوافقوا واطمأنّوا بعد أن عرفوا أنني سأكون على ظهر باخرتهم نفسِها أخذت منهم ألف فرنك على سبيل الإقراض وأعطيتهم ما يضمن حقهم وتبادلنا العنوانات في الجزائر لنعيد لكلّ ذي حقّ حقّه.
انطلقت إلى الشركة لأتمّم الإجراءات والحجز وأرتب أمور إنفاقي لأخرج في النهاية (راس بعبّ)، ولأقضي ليلة هانئة بعد امتحان عسير... أبحرت الباخرة صباح اليوم التالي لأقضي على سطحها أربعاً وعشرين ساعة أنستني الراحة النفسية فيها متاعب الجلوس في كرسي على ظهر باخرة، وأكل سندوتشات من أرخص الأصناف، لأنني لا أملك شيئاً...من بعيد لوحت لنا الجزائر العاصمة بكلتا يديها مرحبة... نزلت وشريكتي واستلمنا أغراضنا، ووقفنا في صفّ التفتيش الطويل...وصل دوري للتفتيش، استلمني موظف لبق فتّش حقائبنا، وملابسي التي ألبسها، وأخرج من أحد جيوب بنطلوني الخفيّة قطعتين ورقيتين رقيقتين وسألني:هل عندك غيرُ هذه الألف وخمسمائة فرنك لتصرّح بها عند دخولك؟
20/6/2008 د/أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد رحلة طويلة ماتعة، من شاطئ المتوسط الشرقيّ إلى الطرف الشماليّ الغربيّ منه حطّت بنا عصا الترحال في مرسيليا، المدينة الغافية في أحضان الطبيعة الساحرة التي تحيط بها، المستلقية على مياه البحر لتداعب بقدميها أمواجه المتلاحقة المتراقصة، توجّهت إلى فندق راق، لي عهد سابق به، أُخذت الحقائب منّا إلى غرفة محجوزة منذ مدّة، مطلّة على أبرز ساحات المدينة، يحيط بها الوسط التجاري للمدينة، لا سيما شركات الملاحة البحرية.
استرحنا قليلاً من وعثاء السفر، ثمّ نزلنا إلى الشركة التي تتكفّل بنقلنا وسيارتنا إلى الضفّة الأخرى من المتوسط إلى الجزائر، دقائق جاء بعدها دورنا لنجلس قبالة الموظف المختصّ؛ ليحجز لنا في الباخرة غرفة مناسبة لعروسين في شهر العسل، ومعنا في الوقت نفسه سيارتُنا الخاصّة، دقّق الموظّف في أوراق السيارة وبادرني قائلاً:
ـ لا مشكلة، فالغرفة الأنيقة بانتظاركم لكنّ أماكن السيارات في الباخرة ممتلئة.
ـ وما العمل في هذه الحالة؟
ـ نترك السيارة عندنا، ثمّ نرسلها لكما في باخرة أخرى بعد ثلاثة أيّام.
ودون تفكير، لأنني لا أملك البديل أجبته:
ـ لا بأس سيّدي، فليكن الأمر كما هو متوفّر.
ـ لكنّ هذا سيكلّفك مبلغاً إضافيّاً مقابل مبيت السيارة عندنا.
أعدت حساباتي بسرعة، وأدركت أن المبلغ الإضافي لا يثقل كاهل ميزانيتنا، وقلت له:
ـ حسناً سيدي، أتمم الإجراءات، واحجز لنا.
دقائق معدودة، ثمّ قال لي:
ـ المبلغ الإجمالي لكما وللسيارة هو ثلاثة آلاف فرنك فرنسيّ.
بلعت ريقي عدّة مرات، وقلت له:
ولكنك قلت لي قبل مدّة بأن التكلفة ألفا فرنك بالضبط، فما الذي جرى لتغيّر المبلغ.
ـ لقد ارتفعت أجور النقل قبل شهر يا سيّدي، وأنت لم تحجز آنذاك، بل سألت عن
الأجور فقط.
ـ ولكنني لا أملك سوى ألفي فرنك.
ـ هذه مشكلتك، كلّ ما أستطيع تقديمه هو إمهالك لتثبيت الحجز حتى الثامنة مساء؛
أي بعد ثلاث ساعات، لأنّك تعرف أن الباخرة ستبحر في الثامنة من صباح الغد.
شكرته بعد أن استبدلت بغرفتي المحجوزة في رحم الباخرة كرسيين بحريين على ظهرها ـ وهو أرخص درجات السفر ـ ...خرجت مع عروسي، لتعود بي الذاكرة إلى ثلاثة أشهر سابقة، لمّا مررت بموظف الشركة وفهمت منه الأسعار وسجلّتها...وحسبت حساباتي جيدا وفق خبرتي آنذاك، وسافرت لقضاء إجازتي بين أهلي وأصحابي لأختمها بالزواج...ثمّ أخذت طريق العودة عبر تركيا أنفّذ ما قمت بتخطيطه بكل دقّة...مررت باستنبول متنقلاً بين آثارها ومتاحفها متبضّعاً بعض الأغراض والألبسة من بينها "بنطلونٌ" له جيوب مخفيّة تقيني شرّ السارقين في تركيا، تابعت طريقي غرباً نحو فرنسا، ولم أنس أن أيمّم شمال؛ لأزور كثيراً من الدول والبلدان مستمتعاً بشهر العسل، منفقاً الكثير وفق الخطة الموضوعة بدقّة كما كنت أعتقد.
خطّطت لأصل إلى مرسيليا في آخر عطلتي الصيفية بحيث يفيض معي أكثر من ألف فرنك فرنسي وهو مبلغ ممتاز آنذاك، مدرِجاً في خطتي النومَ في فندق راق حجزته مسبقاً، والأكلَ في مطاعم مناسبة، وغيرَ ذلك من الأمور التي تتناسب مع متطلبات شهر العسل.
أفقت من ذكرياتي الجميلة إلى واقعي المرير في بلد أنا فيه غريب الوجه واليد، لا اللسان، تداولت الأمر مع شريكتي، وقرّرنا أن نتناسى أننا في شهر العسل...حجز الفندق الراقي لا رجعة فيه؛ لأنه محجوز مسبّقاً، الأكل يمكن أن يقتصر على بعض "الساندوتشات" لا سيما أن الباخرة ستمخر عباب البحر في صباح اليوم التالي، وهذا يوفّر علينا كثيراً من المصروفات، وخلاصة القول أننا محتاجان إلى ألف فرنك لنقف على قدمينا، ونحن في بلد غريب، تذكرت أهلي وأصحابي وعشيرتي بكل ما يحملونه من نخوة وشهامة لا توقعني في مثل هذا الموقف الذي لا أحسد عليه، ألف فرنك دونه إهدار كرامة أو الوقوع في مأزق، أو موقف لا أدري أبعاده.
من بعيد لمحت علماً لبنانياً كبيراً يزيّن لافتة وكالة بحريّة، شعرت بأنّ بصيص أمل قد ظهر لي وأنا في سباق مع الزمن، وموظف الشركة التي ستنقلني ينتظرني...دخلنا الوكالة باعتزاز...عرضت على الأخ اللبناني أن يشتري بألف فرنك مسجلة(وهي شيء نفيس آنذاك) وما يراه مناسباً من خاتم أو اثنين أو أسوارٍ، المهم ألاّ يغبن أحدنا الآخر...يبدو أنه توجس خيفة من شابّ و شابة يعرضان هذا العرض فاعتذر بأدب وطلب إمهاله إلى اليوم التالي مع بقاء الأغراض بحوزته، وهذا أمر غير ممكن مع من يسابق الزمن...ازداد الأمر تعقيداً مع كلّ دقيقة أخسرها لأن عدم سفري في صباح اليوم التالي سيفاقم الوضع وسأحتاج إلى انتظار باخرة أخرى وما يتبع ذلك من مصاريف كبيرة، فإذا كنت عاجزاً عن تدبير ألف فرنك وأنا أملك مسجلة وكاميرا وبعض القطع الذهبية فكيف سأحصل على مبالغ أكبر...كنت في مأزق كبير، وامتحان عسير، لا بدّ أن أخرج منه لكنني لا أعرف الثمن الذي سيُدفع مقابل ذلك.
أوصلت شريكتي إلى الفندق لأبدأ رحلة البحث عن حلّ في مدينة لا شفيع لي فيها ولا عارف، أحمل على كتفي مسجلة، وفي جيبي بعض القطع الذهبية التي سأضحّي بها جميعها في سبيل خروجي من هذه الورطة، وبدأت رحلة البحث عن حلّ أقفز الشوارع قفزاً لأنني أسابق الزمن تماماً كما أسابق السراب، بلا أمل أو هدف.
رأيت من بعيد مجموعة شبان سُمْرِ الملامح فخطر في بالي أبناء جلدتي أستدرّ عطفهم، وأطلعهم على مشكلتي بكل صدق ولا شكّ في أنهم أصحاب حميّة مهما كان البلد الذي ينتمون إليه...اقتربت، ثمّ اقتربت أكثر أسترق السمع، وإذ بهم يرطنون بكلمات لا أميزها آنذاك وهي اللغة الأورديّة، فابتعدت مكسور الخاطر مهيض الجناح وعقارب الساعة تسير بسرعة كأنني في مباراة حاسمة فريقي خاسر بفارق ضئيل، وفجأة لمحت وجوها سمراء أخرى على الطرف الآخر من الشارع، اجتزته مخالفاً كلّ قواعد المرور المحترمة في تلك البلاد...شنّفت أذنيّ جيداً كي لا أصابَ بانتكاسة أخرى فيضيعَ وقتي المتسارع هباءً...سرت على بعد خطوات منهم مطبّقاً كل شروط التمركز التي أعرفها ذلك بأن أرى ولا أُرى وأن أستوعب ما أرى...تهادى إلى مسمعي أجمل كلمات سمعتها في حياتي هي فوق الغزل، والعشق، والمناجاة...سمعت: "آكو...و ماكو" يالله... أبناء الرافدين، أحباؤنا، لا شكّ قضيّتي محلولة على أعتاب نجدتهم المعهودة...اقتربت، فسلمت، فعرضت القضية عليهم، تداولوا الأمر فيما بينهم، فوافقوا واطمأنّوا بعد أن عرفوا أنني سأكون على ظهر باخرتهم نفسِها أخذت منهم ألف فرنك على سبيل الإقراض وأعطيتهم ما يضمن حقهم وتبادلنا العنوانات في الجزائر لنعيد لكلّ ذي حقّ حقّه.
انطلقت إلى الشركة لأتمّم الإجراءات والحجز وأرتب أمور إنفاقي لأخرج في النهاية (راس بعبّ)، ولأقضي ليلة هانئة بعد امتحان عسير... أبحرت الباخرة صباح اليوم التالي لأقضي على سطحها أربعاً وعشرين ساعة أنستني الراحة النفسية فيها متاعب الجلوس في كرسي على ظهر باخرة، وأكل سندوتشات من أرخص الأصناف، لأنني لا أملك شيئاً...من بعيد لوحت لنا الجزائر العاصمة بكلتا يديها مرحبة... نزلت وشريكتي واستلمنا أغراضنا، ووقفنا في صفّ التفتيش الطويل...وصل دوري للتفتيش، استلمني موظف لبق فتّش حقائبنا، وملابسي التي ألبسها، وأخرج من أحد جيوب بنطلوني الخفيّة قطعتين ورقيتين رقيقتين وسألني:هل عندك غيرُ هذه الألف وخمسمائة فرنك لتصرّح بها عند دخولك؟
قصة قصيرة: شجرة التوت
شجرة التوت
23ـ3ـ2009 د / أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جلس الحاج "أبو كريم" خلف باب سطح منزله الخشبيّ المتشقّق المترنّح من وطأة السنين، ومن تعاقب الأنواء عليه تماماً كحال صاحبه أبي كريم الذي عاش الحياة بمرارتها حتّى اضمحلّت أيامه السعيدة، وتقطّعت الحبال بينه وبين الفرح منذ زمن طويل، فلم يبق له؛ ليسليه في الهزيع الأخير من عمره إلاّ تلك الحمامات بنّية اللون "حمام مكّة" كما يسمّونها، فهي تتشابه وتُستنسخ، على النقيض من الحمام الذي يُرَبّى على أسطح المنازل، وله أسماؤه، وأشكاله، وأثمانه، كما أنّ له مشاكله الكثيرة.
بدا أبو كريم متوتّراً وهو يقعد القرفصاء، فهو على موعد للّقاء مع الحمامات التي لم يسبق له أن تعرّفها، ولم يزقّها، ولم يرْعَها، حتّى إنّه لم يشتر واحدة منها بل ساقتها الأقدار إلى سطح منزله المتواضع، متغنّية بقول الشاعر:
يسقط الطير حيث ينتثر الحَـــــــــبّ وتُغشى منازلُ الكرماء
تكوّر أبو كريم وهو يلتفّ بمعطفه القديم، فأوصاله لا تقوى على مقاومة برد "المربعينيّة"، وهو صاحب الجسم النحيل الذي لا يجد البردُ فيه ما يحول دون التغلغل إلى نِقْيِ عظامه التي تفخّرت منذ زمن ليس بقريب، ومع ذلك ظلّ على عهده مع الحمامات كان قد قطعه لها على الوفاء الدائم المستمرّ بأن يقدّم لها خبزاً يابساً، وفضلات طعام من رز، أو برغل، أو غير ذلك مما تجود به مائدة طعامه المتواضعة، فلم ينقطع حرصه على استقبال الحمام على الرغم من كثرتها التي تتنامى شهراً بعد شهر من خلال كمّ ما تستهلكه من مائدته العامرة على الدوام.
مازال أبو كريم ينتظر "كشّة الحمام" لعلّها "تُهدّي"؛ لترتاح وتأكل وتشرب... يبدو أنها تأخرت، أو شغلها شاغل (قال في سرّه)، فالخوف الأكبر الذي راوده هو حصولها على مكان أكثر غذاء من مائدته، عندها ستذهب دون عودة، وكذلك إذا نالت منها أذيّةُ أولاد الحارة الذين أدمنوا محاولة اصطيادها بوسائلهم المتعدّدة، على الرغم من حرمانية صيدها كما يعتقد الجميع.
تثاقل جفناه واسترخيا على عينين جاحظتين تقبعان فوق وجهٍ حفرت معاول الأيّام تجاعيده، فغدا شاحباً يحكي تاريخاً طويلاً يخفي أكثر ممّا يظهر، قفز به شريط الذكريات إلى عَقْد من الزمن يوم أطلت برأسها نبتة صغيرة بمحاذاة جدار بيته، سرعان ما كشفت اللثام عن مشروع شجرة توت لم يدر أحد كيف زُرعت؟، ولا كيف ترعرعت، واستوى عودها؟ الأمر الذي شجع أبا كريم على الاعتناء بها ورعايتها، وتبنيها من عبث العابثين. طالت الشجرة، وكبرت مع كِبَر فرحة صاحبها، وأورقت، ثمّ طرحت التوت في مَقْدَم كلّ ربيع، فأكل منه وأسرتَه هذا النتاج، شمخت الشجرة حتى علت سطح منزل أبي كريم القابع في الطابق الثاني، ثمّ ما لبثت أن مالت بحنان؛ لتلامس جدار السطح رامية بظلها فوقه مُضْفِِية على أبي كريم وأسرتِه سعادةً طال انتظارها؛ لأنها كبرت مع أولاده، وصار بينها وبينهم خبز وملح، سقوها، وحموها، فأعطتهم التوت بيسر فوق سطح منزلهم.
تبسّم الغافي متذكّراً أم كريم التي تشارك زوجها عشقه، وولهه، فهي تحثّه على وضع الطعام للحمام، وتساعده في تكريم ضيوفه، ولعلّ تحضير الوجبة لهم يحتاج إلى طريقة يسيرة عرفتها مع الممارسة من خلال تقطيع الخبز، أو تكسيره، ثمّ بلّه بالماء.
ما شاء الله يا أبا كريم لقد كثر الحمام كثيراً، فقد كنّا نقدم لها ما يفيض من خبزنا كل يومين مرّة،أماّ الآن..
(قاطعها زوجها) هذه سنّة الكون، ألم نكثر نحن كذلك؟ كناّ أنا وأنت في البيت، واليومَ صار أولادنا خمسةً (بعينين العدو).
هذا من حظ الحمام، فالأولاد يرمون كثيراً من الخبز والأكل، كما أنهم يساعدونك في إحضار الخبز اليابس من عند الجيران والمعارف.
اتركيها على الله يا أم كريم، لا أكتمك سراً إذا قلت لك: إن بعض الناس صاروا يقدمون لي الخبز دون أن أطلبه منهم، وفي بعض الأحايين كنت أشتري بعض الأرغفة وأصعد خلسة إلى السطح؛ لأضعها للحمام، كلّه بثوابه إن شاء الله.
يصحو أبو كريم من غفوته وأحلامه، وينظر من خلال شقوق باب السطح الخشبي ثانية بطرف عينه إلى الساحة التي غفت عليها شجرة التوت، مركّزاً نظره على المنطقة التي اعتاد أن يضع فيها سَماطَ طعام الحمام، فكلّ أمله أن يظفر بلقاء أحبّته.
نادته زوجه مراراً ليأكل، وأرسلت إليه كريماً لحثّه على النزول دون جدوى، فقد تحمّل قساوة البرد وشدّته في سبيل اللقاء مع مخلوقات عايشها وكبّرها دون أن يعرف واحداً منها فكلّها متشابهة، وكلّها تحوم فوق منزله، لقد عشق أسراب حمام مكّة بلونها البنّيّ المميّز المتشابهِ حتّى إنه كلّما رأى حمامات تحوّم في السماء قال لأولاده مفتخراً:
انظروا هذه حماماتنا، لاحظوا كم هي سمينة!!!
الفضل لنا يا بابا ألسنا نساعدك في جمع الخبز والطعام، ونطرد القطط التي تقترب من بيتنا، بل من شارعنا؟...ويضحك الجميع ضحكة بريئة سعيدة.
بعد أن تنشّط أبو كريم حدّثته نفسه بأن يشعل سيجارة تاقت إليها نفسه، لتقطع عليه وَحْشته ، وتخفّفَ من ضجره، لكنّه آثر التريث، خوفاً من عدم مجيء الحمامات، إذا استشعرت بأيّ خطر، أو صوت، لاسيّما أنها لا تعرف مطعمها كذلك، ولم تأنسْه، على عكس الحمام في كثير من البلاد حيث تقف فيها هذه المخلوقات على أكفّ الناس ورؤوسهم... وعلى الرغم من ذلك صمّم على إنهاء المهمة؛ ليكحّل عينيه برؤيتها، ويحصد النصر نصر الإطعام والتسمين والتكاثر الذي جعله عاجزاً عن مواكبة ذرّيتها، و سدّ رمقها.
فرك أبو كريم عينيه بكمّ معطفه، وأعقبها بلفّاحته بفركة أخرى دون أن ينبِسَ ببنتِ شفة... عدّل جِلسته بعد أن لمح مجموعة منها بلونها البنيّ الجميل وقد شرعت بالأكل، ورأى ثلّة أخرى بدأت تتدحرج متهادية من أغصان شجرة التوت التي تلامس السطح، وتزاحمت الكوكبة على الأكل بحركة دؤوب مطرقة رأسها في طعامها، وكأنّه أمام ثورة الجياع، وقد وقعوا على طعام بعد طول غياب...ياالله ... نادى بأعلى صوته عندما رأى قطيعاً من الجرذان التي اعتادت منذ سنوات طويلة تسلّق شجرة التوت؛ لتتناول وجبتها المعتادة من مائدة أبي كريم.
23ـ3ـ2009 د / أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جلس الحاج "أبو كريم" خلف باب سطح منزله الخشبيّ المتشقّق المترنّح من وطأة السنين، ومن تعاقب الأنواء عليه تماماً كحال صاحبه أبي كريم الذي عاش الحياة بمرارتها حتّى اضمحلّت أيامه السعيدة، وتقطّعت الحبال بينه وبين الفرح منذ زمن طويل، فلم يبق له؛ ليسليه في الهزيع الأخير من عمره إلاّ تلك الحمامات بنّية اللون "حمام مكّة" كما يسمّونها، فهي تتشابه وتُستنسخ، على النقيض من الحمام الذي يُرَبّى على أسطح المنازل، وله أسماؤه، وأشكاله، وأثمانه، كما أنّ له مشاكله الكثيرة.
بدا أبو كريم متوتّراً وهو يقعد القرفصاء، فهو على موعد للّقاء مع الحمامات التي لم يسبق له أن تعرّفها، ولم يزقّها، ولم يرْعَها، حتّى إنّه لم يشتر واحدة منها بل ساقتها الأقدار إلى سطح منزله المتواضع، متغنّية بقول الشاعر:
يسقط الطير حيث ينتثر الحَـــــــــبّ وتُغشى منازلُ الكرماء
تكوّر أبو كريم وهو يلتفّ بمعطفه القديم، فأوصاله لا تقوى على مقاومة برد "المربعينيّة"، وهو صاحب الجسم النحيل الذي لا يجد البردُ فيه ما يحول دون التغلغل إلى نِقْيِ عظامه التي تفخّرت منذ زمن ليس بقريب، ومع ذلك ظلّ على عهده مع الحمامات كان قد قطعه لها على الوفاء الدائم المستمرّ بأن يقدّم لها خبزاً يابساً، وفضلات طعام من رز، أو برغل، أو غير ذلك مما تجود به مائدة طعامه المتواضعة، فلم ينقطع حرصه على استقبال الحمام على الرغم من كثرتها التي تتنامى شهراً بعد شهر من خلال كمّ ما تستهلكه من مائدته العامرة على الدوام.
مازال أبو كريم ينتظر "كشّة الحمام" لعلّها "تُهدّي"؛ لترتاح وتأكل وتشرب... يبدو أنها تأخرت، أو شغلها شاغل (قال في سرّه)، فالخوف الأكبر الذي راوده هو حصولها على مكان أكثر غذاء من مائدته، عندها ستذهب دون عودة، وكذلك إذا نالت منها أذيّةُ أولاد الحارة الذين أدمنوا محاولة اصطيادها بوسائلهم المتعدّدة، على الرغم من حرمانية صيدها كما يعتقد الجميع.
تثاقل جفناه واسترخيا على عينين جاحظتين تقبعان فوق وجهٍ حفرت معاول الأيّام تجاعيده، فغدا شاحباً يحكي تاريخاً طويلاً يخفي أكثر ممّا يظهر، قفز به شريط الذكريات إلى عَقْد من الزمن يوم أطلت برأسها نبتة صغيرة بمحاذاة جدار بيته، سرعان ما كشفت اللثام عن مشروع شجرة توت لم يدر أحد كيف زُرعت؟، ولا كيف ترعرعت، واستوى عودها؟ الأمر الذي شجع أبا كريم على الاعتناء بها ورعايتها، وتبنيها من عبث العابثين. طالت الشجرة، وكبرت مع كِبَر فرحة صاحبها، وأورقت، ثمّ طرحت التوت في مَقْدَم كلّ ربيع، فأكل منه وأسرتَه هذا النتاج، شمخت الشجرة حتى علت سطح منزل أبي كريم القابع في الطابق الثاني، ثمّ ما لبثت أن مالت بحنان؛ لتلامس جدار السطح رامية بظلها فوقه مُضْفِِية على أبي كريم وأسرتِه سعادةً طال انتظارها؛ لأنها كبرت مع أولاده، وصار بينها وبينهم خبز وملح، سقوها، وحموها، فأعطتهم التوت بيسر فوق سطح منزلهم.
تبسّم الغافي متذكّراً أم كريم التي تشارك زوجها عشقه، وولهه، فهي تحثّه على وضع الطعام للحمام، وتساعده في تكريم ضيوفه، ولعلّ تحضير الوجبة لهم يحتاج إلى طريقة يسيرة عرفتها مع الممارسة من خلال تقطيع الخبز، أو تكسيره، ثمّ بلّه بالماء.
ما شاء الله يا أبا كريم لقد كثر الحمام كثيراً، فقد كنّا نقدم لها ما يفيض من خبزنا كل يومين مرّة،أماّ الآن..
(قاطعها زوجها) هذه سنّة الكون، ألم نكثر نحن كذلك؟ كناّ أنا وأنت في البيت، واليومَ صار أولادنا خمسةً (بعينين العدو).
هذا من حظ الحمام، فالأولاد يرمون كثيراً من الخبز والأكل، كما أنهم يساعدونك في إحضار الخبز اليابس من عند الجيران والمعارف.
اتركيها على الله يا أم كريم، لا أكتمك سراً إذا قلت لك: إن بعض الناس صاروا يقدمون لي الخبز دون أن أطلبه منهم، وفي بعض الأحايين كنت أشتري بعض الأرغفة وأصعد خلسة إلى السطح؛ لأضعها للحمام، كلّه بثوابه إن شاء الله.
يصحو أبو كريم من غفوته وأحلامه، وينظر من خلال شقوق باب السطح الخشبي ثانية بطرف عينه إلى الساحة التي غفت عليها شجرة التوت، مركّزاً نظره على المنطقة التي اعتاد أن يضع فيها سَماطَ طعام الحمام، فكلّ أمله أن يظفر بلقاء أحبّته.
نادته زوجه مراراً ليأكل، وأرسلت إليه كريماً لحثّه على النزول دون جدوى، فقد تحمّل قساوة البرد وشدّته في سبيل اللقاء مع مخلوقات عايشها وكبّرها دون أن يعرف واحداً منها فكلّها متشابهة، وكلّها تحوم فوق منزله، لقد عشق أسراب حمام مكّة بلونها البنّيّ المميّز المتشابهِ حتّى إنه كلّما رأى حمامات تحوّم في السماء قال لأولاده مفتخراً:
انظروا هذه حماماتنا، لاحظوا كم هي سمينة!!!
الفضل لنا يا بابا ألسنا نساعدك في جمع الخبز والطعام، ونطرد القطط التي تقترب من بيتنا، بل من شارعنا؟...ويضحك الجميع ضحكة بريئة سعيدة.
بعد أن تنشّط أبو كريم حدّثته نفسه بأن يشعل سيجارة تاقت إليها نفسه، لتقطع عليه وَحْشته ، وتخفّفَ من ضجره، لكنّه آثر التريث، خوفاً من عدم مجيء الحمامات، إذا استشعرت بأيّ خطر، أو صوت، لاسيّما أنها لا تعرف مطعمها كذلك، ولم تأنسْه، على عكس الحمام في كثير من البلاد حيث تقف فيها هذه المخلوقات على أكفّ الناس ورؤوسهم... وعلى الرغم من ذلك صمّم على إنهاء المهمة؛ ليكحّل عينيه برؤيتها، ويحصد النصر نصر الإطعام والتسمين والتكاثر الذي جعله عاجزاً عن مواكبة ذرّيتها، و سدّ رمقها.
فرك أبو كريم عينيه بكمّ معطفه، وأعقبها بلفّاحته بفركة أخرى دون أن ينبِسَ ببنتِ شفة... عدّل جِلسته بعد أن لمح مجموعة منها بلونها البنيّ الجميل وقد شرعت بالأكل، ورأى ثلّة أخرى بدأت تتدحرج متهادية من أغصان شجرة التوت التي تلامس السطح، وتزاحمت الكوكبة على الأكل بحركة دؤوب مطرقة رأسها في طعامها، وكأنّه أمام ثورة الجياع، وقد وقعوا على طعام بعد طول غياب...ياالله ... نادى بأعلى صوته عندما رأى قطيعاً من الجرذان التي اعتادت منذ سنوات طويلة تسلّق شجرة التوت؛ لتتناول وجبتها المعتادة من مائدة أبي كريم.
قصة قصيرة: رجل في بيت أبيض
رجل في بيت أبيض
العين 16/4/2009 الدكتور أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القناة الأولى
جاوز أبو محمد السبعين من عمره وأخاديد الزمن في وجهه تغور وتحكي كلّ يوم قصصاً عاشها منذ النكبة الأولى، وتذكّر يوم قتل أبوه أمام ناظريه، وطرد من بيته وبيّارته مع آلاف من النسوة والأطفال على مسمع من العالم المتحضّر المتمدين آنذاك، حمل آلامه على كاهله ونسج آماله الطفولية بخيوط الأيام، لا يلوي على شيء في هذه الحياة إلاّ مفتاحَ بيته وخيمةً صغيرة ضمته مع أمه وإخوته إلى جانب ما لا يتسع له البصر الممتدّ من الخيام التي تحولت مع الأيام إلى بيوت من الصفيح؛ لتشكل مدينة أطلقوا عليها اسم "مخيّم المغازي".
كبر أبو محمّد وظلّت آماله كبيرة في يوم يعود فيه إلى بيته وحقله، وشكّل المفتاح عنده مفتاحاً للسعادة التي تدغدغ مخيلته على الدوام، ومرت عربة الزمن فوق أحلامه عام ستة وخمسين وكذلك عامَ سبعة وستين حيث مرّغت أحلامه بالتراب، وثلاثةٍ وسبعين، لكنها لم تقوَ على إطفاء الأمل لديه، خبّأ مفتاحه في كثير من المحن التي عصفت بأمة العرب، وكم من مرّة أوشك مفتاحُه أن يضيع، لكن الإرادة لدى أصحاب المفاتيح أقوى من النوائب والمصائب.
جاء خفافيش الظلام يوماً فوق غزّة وما حولها؛ ليجوّعوا من تبقى من أصحاب المفاتيح وأبنائهم وأبناء أبنائهم؛ ليقطفوا البسمة الصابرة التي يملكها أصحاب المفاتيح، بسمةً وهبها الله لبعض الناس الذين لا يعرفون اليأس والتراجع والخنوع، يدفعون بفلذات أكبادهم في سبيل بقاء البسمة تعلو الشفاه، وبصيصِ الأمل متّقداً.
حلّق الطيران في سماء قطاع غزّة دون أن يتخيّر أهدافاً ؛ لأن كلّ القطاع هدف مشروع لديه، وبدأ القصف، وتكوّر أبو محمد وزوجه وأطفاله الصغار إلى جانب أحفاده في زاوية من زوايا المنزل المتداعي أصلاً ؛ ليتّقي الجميع قسوة الغارات الإسرائيلية على مخيّم المغازي، أمّا أولاده الثلاثة الكبار فقد تركوه إلى جهة لا يعلمها بالتحديد، لكنّه متأكد أنهم يدافعون عن بقايا وطنهم الذي نُهِشت أطرافه من كلّ جانب وانتهك على مرّ السنين. أعطى أبو محمد توجيهاته للجميع من نساء وأطفال أن خُذوا حذركم وابقوا إلى جانب الجدران دائماً؛ لتتّقوا انهيار الأسقف من شدّة القصف، واهتزاز أركان البيت إن كانت له أركان، ساعات عصيبة من العويل والبكاء والصراخ توقف بعدها القصف وخرج الناس في الهزيع الأخير من التحمل والصبر يلمّون الجراح من جنبات المخيّم، ويضمّدون آلام بعضهم بعضاً، ولا مساعد لهم على خوفهم إلا رشقات أسلحة المقاومين التي يميزونها بدراية ومعرفة، ويطمئنّون من خلالها، ويتيقنون أنّ الأمور بخير، لا فرق إن كان من استشهد ابنَنا أو ابنَ جارنا، المهمّ أننا نسمع صوت أسلحتهم لنعرف أننا على قيد الحياة.
القناة الثانية
أطفال في عمر الورود تسابق أحلامهم خطواتهم الصغيرة وهم يمرحون في باحة مدرسة صلاح الدين الأيوبي في غزّة، لم يعرفوا مرارة الأيام التي عاشها أهلوهم في النكبة إلاّ من حكايا جداتهم، فتحوا عيونهم على حلم كبير كبير حلم العودة إلى فلسطين أرضهم القريبة البعيدة، لو تسلّلنا إلى أحاديثهم الخاصة لسمعناهم يقولون واحداً تلو الآخر:
· يقول والدي نحن من يافا: كنا نملك ييتاً جميلاً تحيط به أشجار الفاكهة من كلّ جانب ومازال مفتاحه لدينا.
· ويقول آخر: نحن من قرية النبعة قضاء صفد كما يحكي لنا جدي: بيتنا يقبع في أحضان بيارات البرتقال، وبقربه نبع عذب، يقول والدي: إنه من أعذب مياه الأرض.
· ويقول ثالث: يقول جدي: إنّنا من قرية العالية قرب القدس حيث تسدّ الأفق أشجار الزيتون؛ لتلتصق مع السماء في منظر ساحر.
يُقرع جرس المدرسة، ويصطفّ التلاميذ مع معلماتهم في طابور الصباح؛ ليردّدوا نشيد فلسطين كما اعتادوا كلّ صباح، كلّ يرفع صوته بغريزة لا يدري كنهها، إنّما يشعر بفرحة غامرة، ونشوة تساوي نشوة النصر كلّما عانق صوته عنان السماء. بالأمس لم ينم الطلبة من هول القصف، وعلى الرغم من ذلك فقد نسوا آلام الليل مع بزوغ نهار يوم جديد، بعد أن اعتادوا هذا النمط من الحياة.
دخل التلاميذ فصولهم مستبشرين بيوم لا دمار فيه، ثانيةٌ واحدة اقتلعت فيها قنبلة فوسفورية أحلام الطفولة من جذورها، وعُلّقت مظاهر العلم والبراءة على أسطح المنازل المجاورة، وانتشرت روائح الموت لتصبغ دنيا الطفولة بلون أحمر قانٍ يترجم آلام عقود من الزمن مصوّراً حلقة جديدة من مسلسلٍ تتابعت فصوله كل يوم، ولم ير العالمُ له نهايةً، ولم تُسدل ستارةُ مسرحيته بعد.
اجتُثت الطفولةُ كلها في لحظات، ولم يبق منها إلا أيتامٌ في شوارع غزّة يخافون من خفقات قلوبهم، ويرتعدون من رفّة رموش أعينهم، يهيمون على وجوههم باحثين عن بقايا أهلهم ووطنهم، ويحكون للقنوات التلفزيونية وحشية المعتدي، وأنّهم صامدون ومقاومون حتّى آخرَ فرد منهم.
القناة الثالثة
يتربع مشفى جنين الوطني فوق تلّ يراقب المدينة بحنو أمّ تراقب أطفالها وهم يلعبون، فإذا سقط أحد الأولاد أرضاً أو ألمّت به نائبة سارعت الأم لإسعافه بكل ما تملكه من إمكانات، وهي تربت على كتفه مطمئنة، حتّى صار المشفى ملاذاً لكلّ صاحب حاجة سواء أكان غنيّاً أم فقيراً، كبيراً أم صغيراً.
دخلت أم عائد المشفى بعد أن ألمّت بها آلام المخاض المباغت، ولم يجد أبو عائد موئلاً يلجأ إليه إلاّ مشفى جنين الوطني، حمل لها حقيبة صغيرة أعدّتها لهذه اللحظة، فيها أغراض تحتاجها كلّ امرأة تدخل المشفى في حالة الولادة، نهب الزوج الأرض نهباً بسيارة جاره التي استعارها، لأنه بانتظار عائد المولود الجديد الذي سمّاه به أهله وأصدقاؤه قبل أن يتزوج، دقائق ووصل المشفى، ساعتان من الزمن وكانت أم عائد مستلقية في غرفة جيّدة، ووليدها في سرير صغير مجاور تنظر إليه نظرة أنستها أشهر العذاب التسعة، وأبو عائد تغمره فرحة ملك معها الدنيا بما فيها، دخل طبيب الغرفة واطمأنّ على صحة الأم، وهنّأها على سلامة عائد وأخبرهما بأنه سيأخذ الطفل إلى مبنى مجاور ملحق بالمشفى؛ ليوضع في حاضنة خاصة بالخدّج بعض الوقت لأنه يشكو من بعض النقص الذي يمكن تداركه، سمح للأم بمغادرة المشفى في اليوم التالي، عندها بدأت الأم تتردّد يومياً على قسم الخدّج مع أبي عائد يرقبان صغيرهما بابتسامة الرضا على أمل نقل الطفل بعد أيام إلى بيتهما وهو متمتّع بالصحة الكاملة.
صبيحة يوم السبت أيقظت أم عائد زوجها منذ الصباح الباكر تحثّه على الإسراع في تجهيز نفسه؛ لأنها على موعد مع المشفى منذ يوم الخميس لاستلام عائد؛ ليكون ابنُها بين أحضانها على الدوام، ولن تفارقه بعد اليوم، خرجا من البيت، جريا في الشارع مسرعَيْن نحو بيت الجار؛ لأخذ سيارته، انطلقا بالسيارة نحو المشفى؛ ليجدا أمامهما هرج ومرج، ويشاهدا سدّاً منيعاً حال بينهما وبين عائد سدّاً عنصرياً مصطنعاً فرق بين الأب وأبنائه وربِّ الأسرة وحقله، ومزق المدينة إلى أشلاءٍ حرمت الولدَ من مدرسته والأمَ من وليدها، هذا السدّ أطلقوا عليه اسمَ الجدار العازل.
النتيجة
في غرفة بيضاوية من غرف بيت أبيض امتدّت من خلال الضوء الخافت يد لتعبث بشعر كلب مستلق عند قدمي صاحبه الذي لم تهزّ فيه المشاهد شعرة، يتثاءب الرجل في البيت الأبيض ويتمطّى مرات ومرات، ويمسك بيده الأخرى جهاز التحكم من بعد ويطفئ شاشة التلفاز قائلاً لزوجه: أين تقع غزّةُ، وجنين، ومخيم المغازي ؟... على العموم لامشكلة في ذلك هيّا؛ لننام.
العين 16/4/2009 الدكتور أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القناة الأولى
جاوز أبو محمد السبعين من عمره وأخاديد الزمن في وجهه تغور وتحكي كلّ يوم قصصاً عاشها منذ النكبة الأولى، وتذكّر يوم قتل أبوه أمام ناظريه، وطرد من بيته وبيّارته مع آلاف من النسوة والأطفال على مسمع من العالم المتحضّر المتمدين آنذاك، حمل آلامه على كاهله ونسج آماله الطفولية بخيوط الأيام، لا يلوي على شيء في هذه الحياة إلاّ مفتاحَ بيته وخيمةً صغيرة ضمته مع أمه وإخوته إلى جانب ما لا يتسع له البصر الممتدّ من الخيام التي تحولت مع الأيام إلى بيوت من الصفيح؛ لتشكل مدينة أطلقوا عليها اسم "مخيّم المغازي".
كبر أبو محمّد وظلّت آماله كبيرة في يوم يعود فيه إلى بيته وحقله، وشكّل المفتاح عنده مفتاحاً للسعادة التي تدغدغ مخيلته على الدوام، ومرت عربة الزمن فوق أحلامه عام ستة وخمسين وكذلك عامَ سبعة وستين حيث مرّغت أحلامه بالتراب، وثلاثةٍ وسبعين، لكنها لم تقوَ على إطفاء الأمل لديه، خبّأ مفتاحه في كثير من المحن التي عصفت بأمة العرب، وكم من مرّة أوشك مفتاحُه أن يضيع، لكن الإرادة لدى أصحاب المفاتيح أقوى من النوائب والمصائب.
جاء خفافيش الظلام يوماً فوق غزّة وما حولها؛ ليجوّعوا من تبقى من أصحاب المفاتيح وأبنائهم وأبناء أبنائهم؛ ليقطفوا البسمة الصابرة التي يملكها أصحاب المفاتيح، بسمةً وهبها الله لبعض الناس الذين لا يعرفون اليأس والتراجع والخنوع، يدفعون بفلذات أكبادهم في سبيل بقاء البسمة تعلو الشفاه، وبصيصِ الأمل متّقداً.
حلّق الطيران في سماء قطاع غزّة دون أن يتخيّر أهدافاً ؛ لأن كلّ القطاع هدف مشروع لديه، وبدأ القصف، وتكوّر أبو محمد وزوجه وأطفاله الصغار إلى جانب أحفاده في زاوية من زوايا المنزل المتداعي أصلاً ؛ ليتّقي الجميع قسوة الغارات الإسرائيلية على مخيّم المغازي، أمّا أولاده الثلاثة الكبار فقد تركوه إلى جهة لا يعلمها بالتحديد، لكنّه متأكد أنهم يدافعون عن بقايا وطنهم الذي نُهِشت أطرافه من كلّ جانب وانتهك على مرّ السنين. أعطى أبو محمد توجيهاته للجميع من نساء وأطفال أن خُذوا حذركم وابقوا إلى جانب الجدران دائماً؛ لتتّقوا انهيار الأسقف من شدّة القصف، واهتزاز أركان البيت إن كانت له أركان، ساعات عصيبة من العويل والبكاء والصراخ توقف بعدها القصف وخرج الناس في الهزيع الأخير من التحمل والصبر يلمّون الجراح من جنبات المخيّم، ويضمّدون آلام بعضهم بعضاً، ولا مساعد لهم على خوفهم إلا رشقات أسلحة المقاومين التي يميزونها بدراية ومعرفة، ويطمئنّون من خلالها، ويتيقنون أنّ الأمور بخير، لا فرق إن كان من استشهد ابنَنا أو ابنَ جارنا، المهمّ أننا نسمع صوت أسلحتهم لنعرف أننا على قيد الحياة.
القناة الثانية
أطفال في عمر الورود تسابق أحلامهم خطواتهم الصغيرة وهم يمرحون في باحة مدرسة صلاح الدين الأيوبي في غزّة، لم يعرفوا مرارة الأيام التي عاشها أهلوهم في النكبة إلاّ من حكايا جداتهم، فتحوا عيونهم على حلم كبير كبير حلم العودة إلى فلسطين أرضهم القريبة البعيدة، لو تسلّلنا إلى أحاديثهم الخاصة لسمعناهم يقولون واحداً تلو الآخر:
· يقول والدي نحن من يافا: كنا نملك ييتاً جميلاً تحيط به أشجار الفاكهة من كلّ جانب ومازال مفتاحه لدينا.
· ويقول آخر: نحن من قرية النبعة قضاء صفد كما يحكي لنا جدي: بيتنا يقبع في أحضان بيارات البرتقال، وبقربه نبع عذب، يقول والدي: إنه من أعذب مياه الأرض.
· ويقول ثالث: يقول جدي: إنّنا من قرية العالية قرب القدس حيث تسدّ الأفق أشجار الزيتون؛ لتلتصق مع السماء في منظر ساحر.
يُقرع جرس المدرسة، ويصطفّ التلاميذ مع معلماتهم في طابور الصباح؛ ليردّدوا نشيد فلسطين كما اعتادوا كلّ صباح، كلّ يرفع صوته بغريزة لا يدري كنهها، إنّما يشعر بفرحة غامرة، ونشوة تساوي نشوة النصر كلّما عانق صوته عنان السماء. بالأمس لم ينم الطلبة من هول القصف، وعلى الرغم من ذلك فقد نسوا آلام الليل مع بزوغ نهار يوم جديد، بعد أن اعتادوا هذا النمط من الحياة.
دخل التلاميذ فصولهم مستبشرين بيوم لا دمار فيه، ثانيةٌ واحدة اقتلعت فيها قنبلة فوسفورية أحلام الطفولة من جذورها، وعُلّقت مظاهر العلم والبراءة على أسطح المنازل المجاورة، وانتشرت روائح الموت لتصبغ دنيا الطفولة بلون أحمر قانٍ يترجم آلام عقود من الزمن مصوّراً حلقة جديدة من مسلسلٍ تتابعت فصوله كل يوم، ولم ير العالمُ له نهايةً، ولم تُسدل ستارةُ مسرحيته بعد.
اجتُثت الطفولةُ كلها في لحظات، ولم يبق منها إلا أيتامٌ في شوارع غزّة يخافون من خفقات قلوبهم، ويرتعدون من رفّة رموش أعينهم، يهيمون على وجوههم باحثين عن بقايا أهلهم ووطنهم، ويحكون للقنوات التلفزيونية وحشية المعتدي، وأنّهم صامدون ومقاومون حتّى آخرَ فرد منهم.
القناة الثالثة
يتربع مشفى جنين الوطني فوق تلّ يراقب المدينة بحنو أمّ تراقب أطفالها وهم يلعبون، فإذا سقط أحد الأولاد أرضاً أو ألمّت به نائبة سارعت الأم لإسعافه بكل ما تملكه من إمكانات، وهي تربت على كتفه مطمئنة، حتّى صار المشفى ملاذاً لكلّ صاحب حاجة سواء أكان غنيّاً أم فقيراً، كبيراً أم صغيراً.
دخلت أم عائد المشفى بعد أن ألمّت بها آلام المخاض المباغت، ولم يجد أبو عائد موئلاً يلجأ إليه إلاّ مشفى جنين الوطني، حمل لها حقيبة صغيرة أعدّتها لهذه اللحظة، فيها أغراض تحتاجها كلّ امرأة تدخل المشفى في حالة الولادة، نهب الزوج الأرض نهباً بسيارة جاره التي استعارها، لأنه بانتظار عائد المولود الجديد الذي سمّاه به أهله وأصدقاؤه قبل أن يتزوج، دقائق ووصل المشفى، ساعتان من الزمن وكانت أم عائد مستلقية في غرفة جيّدة، ووليدها في سرير صغير مجاور تنظر إليه نظرة أنستها أشهر العذاب التسعة، وأبو عائد تغمره فرحة ملك معها الدنيا بما فيها، دخل طبيب الغرفة واطمأنّ على صحة الأم، وهنّأها على سلامة عائد وأخبرهما بأنه سيأخذ الطفل إلى مبنى مجاور ملحق بالمشفى؛ ليوضع في حاضنة خاصة بالخدّج بعض الوقت لأنه يشكو من بعض النقص الذي يمكن تداركه، سمح للأم بمغادرة المشفى في اليوم التالي، عندها بدأت الأم تتردّد يومياً على قسم الخدّج مع أبي عائد يرقبان صغيرهما بابتسامة الرضا على أمل نقل الطفل بعد أيام إلى بيتهما وهو متمتّع بالصحة الكاملة.
صبيحة يوم السبت أيقظت أم عائد زوجها منذ الصباح الباكر تحثّه على الإسراع في تجهيز نفسه؛ لأنها على موعد مع المشفى منذ يوم الخميس لاستلام عائد؛ ليكون ابنُها بين أحضانها على الدوام، ولن تفارقه بعد اليوم، خرجا من البيت، جريا في الشارع مسرعَيْن نحو بيت الجار؛ لأخذ سيارته، انطلقا بالسيارة نحو المشفى؛ ليجدا أمامهما هرج ومرج، ويشاهدا سدّاً منيعاً حال بينهما وبين عائد سدّاً عنصرياً مصطنعاً فرق بين الأب وأبنائه وربِّ الأسرة وحقله، ومزق المدينة إلى أشلاءٍ حرمت الولدَ من مدرسته والأمَ من وليدها، هذا السدّ أطلقوا عليه اسمَ الجدار العازل.
النتيجة
في غرفة بيضاوية من غرف بيت أبيض امتدّت من خلال الضوء الخافت يد لتعبث بشعر كلب مستلق عند قدمي صاحبه الذي لم تهزّ فيه المشاهد شعرة، يتثاءب الرجل في البيت الأبيض ويتمطّى مرات ومرات، ويمسك بيده الأخرى جهاز التحكم من بعد ويطفئ شاشة التلفاز قائلاً لزوجه: أين تقع غزّةُ، وجنين، ومخيم المغازي ؟... على العموم لامشكلة في ذلك هيّا؛ لننام.
قصة قصيرة: حادث مروري
حادث مروري
د/أمان الدين محمد حتحات
د/أمان الدين محمد حتحات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جلست خلف مكتبي عصراً ألملم أوراقي المتناثرة في حقيبتي التدريسية حيث اعتدتُ أن أرمي فيها مخلفات العمل اليومي؛ لأرتّبها ثانية في اليوم ذاته... سُنّة العمل، ومستلتزماتُه أن أجمعَ وأفرّق، أو أفرّق وأجمع من جديد، حتى تعوّدت الحقيبة اجترار نفسها كما تجترّ الأيام ساعاتها والساعات دقائقها وهكذا دواليك...
نظّمت أموري؛ لأتفرّغ لدعوة الإفطار عند جواد أحد أصدقائنا بعيداً عن الأسرة التي تغيظها كثيراً دعوات الإفطار الذكريّة؛ لأنّها تبعد الأب عن أولاده في جلسة حميميّة يوفرها لنا شهر رمضان دون سائر أشهر السنة، يضاف إلى ذلك أنّ ما يتبع الطعام من أحاديث ومناقشات تمتدّ ساعات يُلْزِمني السّهرَ؛ لأنّني معتاد أن أخلو لنفسي وتلفازي في الليل حتى يغالبَني النعاس.
لبست على عجل بعد أن شعرت أن الوقت قد أزف، ومازال أمامي أن أمرّ بيت صديقي عادل الذي اعتدت مرافقته في مثل هذه المناسبات، وأنا المعروف لدى الجميع بمحافظتي على الوقت والالتزام بالموعد إن لم يعقني عن ذلك أمر جلل.
كان عادل ينتظرني أمام بيته حريصاً مثلي على عدم التأخّر عن الموعد مع جواد، فالمسافة إلى منزله بعيدة والشوارع مكتظّة، والسيارات مسرعة إلى حدّ التهوّر.
بادرني بالسؤال:
ـ ما الطريق التي سنسلكها حتّى لا نتأخّر؟
ـ يبدو أنّنا سنذهب من طريق خارجية متفادين ازدحام السيارات في وسط
المدينة.
نهبت الأرض مسرعاً محاولاً الوصول في الوقت المحدّد، اتّجهت صوب مدخل البريمي[1] الجنوبي، وهو مدخل مخصّص لأبناء دول مجلس التعاون الخليجي، وهدفي كان الوصولَ إلى منطقة الكويتات[2]، الشوارع واسعة، ومخطّطة، ومنظّمة، وبما أنّ النظام في مدينة العين مميّز، وكلّ السيارات تلتزم بمسارها الذي اختارته وفق الأنظمة الدولية المعمول بها فقد التزمت المسرب الأيمن تاركاً المسربين الأوسط والأيسر لأنّهما مخصّصان لمن يريد الانعطاف يساراً إلى البريمي أو يتابع سيره إلى الأمام.
التزمت اليمين، و ( يا مستعجل وقف أقلّك )، تمهلت على مضض لمّا رأيت السيارات تتهادى أمامي ببطء في مسربي، وتتوقف؛ لتضيء إشارات التنبيه الصفراء، عندها أدركت وصديقي عادلاً أنّ ما خشيته قد وقع، والحادث المروري كبير جداً جعل السائقين يتوقّفون منبّهِين مَنْ وراءهم لأخذ الحذر والحيطة.
ـ ماذا ترى يا عادل.
ـ ألم أقل لك: إنّ إحصاءات المرور تشير إلى أن أكثر حوادث المرور تكون قُبَيْل المغرب، لا سيّما في شهر رمضان، يا أخي على مهلك، ووصولنا متأخرين خير من عدم وصولنا.
ـ حسناً سألتزم مسربي الأيمن، فنحن لسنا أفضل من الآخرين.
مرت دقائق طويلة أضاءت خلالها الإشارة الخضراء عدّة مرات، وسارت السيارات كلّها عدا جماعة اليمين، مددت رأسي من النافذة وزرعت ناظريَّ في تجمّعهم، فلم أحصد سوى الخيبة، والغموض، وجدتني ألمح الناس جماعات جماعات، يجيؤون ويروحون على عجل وجلبة، حتى إنّ سيارات طريق الإياب وقفت أيضاً في يمين طريقها، ونزل سائقوها منها، وهذه عادة شائعة عند رؤية أيّ حادث، يدفع الفضولُ أصحابها إلى حبّ الاطّلاع والنظر إلى مصائب الآخرين على الرّغم من ظروف الشهر الكريم، مستغلّين فرصة أنّ رجال الشرطة لم تأتوا بعدُ.
بدأت أقلق وصديقي، ترجّلنا من سيارتنا نروم خلاصاً ممّا نحن فيه دون أن نخالف السير، سرنا نحو التجمّع؛ لنحث الناس على التصرّف، والتسامح ، وتناسي الحادث أواستعجال طلب الشرطة، سرنا، وسرنا...خلال هذا التوقّف القسريّ شاهدَنا بعض الأصدقاء الذين يعبرون بسياراتهم من طريق الإياب، ورفعوا أيديهم مُلْقِيْن بالتحية علينا من بعيد، وعلى عجل، ولقينا كذلك بعض الطلاب في سياراتهم، وأشاروا لنا بالتحيّة أيضاً، قطعنا مسافة شعرنا أنّها طويلة جداً رأينا خلالها عشراتِ السيارات كلُّها واقفة في الرتل الأيمن من الطريق، وسيارتنا تقبع خانعة في المؤخرة، واقتربت من أول جمع صادفني دون أن يكترث بنا أحد منهم، استلطفت أحدهم، وسألته: ما الذي يحدث يا أخي؟ فقال على عجل دون أن يكلّف نفسه عناء الالتفات : ألا ترى أنّ الناس محتشدون عند بيت أحد المحسنين؛ ليأخذوا نصيبهم من طعام الإفطار؟!!
[1] مدينة تقع في سلطنة عمان، وهي ملاصقة لمدينة العين الإماراتية
[2] حيّ من أحياء مدينة العين
جلست خلف مكتبي عصراً ألملم أوراقي المتناثرة في حقيبتي التدريسية حيث اعتدتُ أن أرمي فيها مخلفات العمل اليومي؛ لأرتّبها ثانية في اليوم ذاته... سُنّة العمل، ومستلتزماتُه أن أجمعَ وأفرّق، أو أفرّق وأجمع من جديد، حتى تعوّدت الحقيبة اجترار نفسها كما تجترّ الأيام ساعاتها والساعات دقائقها وهكذا دواليك...
نظّمت أموري؛ لأتفرّغ لدعوة الإفطار عند جواد أحد أصدقائنا بعيداً عن الأسرة التي تغيظها كثيراً دعوات الإفطار الذكريّة؛ لأنّها تبعد الأب عن أولاده في جلسة حميميّة يوفرها لنا شهر رمضان دون سائر أشهر السنة، يضاف إلى ذلك أنّ ما يتبع الطعام من أحاديث ومناقشات تمتدّ ساعات يُلْزِمني السّهرَ؛ لأنّني معتاد أن أخلو لنفسي وتلفازي في الليل حتى يغالبَني النعاس.
لبست على عجل بعد أن شعرت أن الوقت قد أزف، ومازال أمامي أن أمرّ بيت صديقي عادل الذي اعتدت مرافقته في مثل هذه المناسبات، وأنا المعروف لدى الجميع بمحافظتي على الوقت والالتزام بالموعد إن لم يعقني عن ذلك أمر جلل.
كان عادل ينتظرني أمام بيته حريصاً مثلي على عدم التأخّر عن الموعد مع جواد، فالمسافة إلى منزله بعيدة والشوارع مكتظّة، والسيارات مسرعة إلى حدّ التهوّر.
بادرني بالسؤال:
ـ ما الطريق التي سنسلكها حتّى لا نتأخّر؟
ـ يبدو أنّنا سنذهب من طريق خارجية متفادين ازدحام السيارات في وسط
المدينة.
نهبت الأرض مسرعاً محاولاً الوصول في الوقت المحدّد، اتّجهت صوب مدخل البريمي[1] الجنوبي، وهو مدخل مخصّص لأبناء دول مجلس التعاون الخليجي، وهدفي كان الوصولَ إلى منطقة الكويتات[2]، الشوارع واسعة، ومخطّطة، ومنظّمة، وبما أنّ النظام في مدينة العين مميّز، وكلّ السيارات تلتزم بمسارها الذي اختارته وفق الأنظمة الدولية المعمول بها فقد التزمت المسرب الأيمن تاركاً المسربين الأوسط والأيسر لأنّهما مخصّصان لمن يريد الانعطاف يساراً إلى البريمي أو يتابع سيره إلى الأمام.
التزمت اليمين، و ( يا مستعجل وقف أقلّك )، تمهلت على مضض لمّا رأيت السيارات تتهادى أمامي ببطء في مسربي، وتتوقف؛ لتضيء إشارات التنبيه الصفراء، عندها أدركت وصديقي عادلاً أنّ ما خشيته قد وقع، والحادث المروري كبير جداً جعل السائقين يتوقّفون منبّهِين مَنْ وراءهم لأخذ الحذر والحيطة.
ـ ماذا ترى يا عادل.
ـ ألم أقل لك: إنّ إحصاءات المرور تشير إلى أن أكثر حوادث المرور تكون قُبَيْل المغرب، لا سيّما في شهر رمضان، يا أخي على مهلك، ووصولنا متأخرين خير من عدم وصولنا.
ـ حسناً سألتزم مسربي الأيمن، فنحن لسنا أفضل من الآخرين.
مرت دقائق طويلة أضاءت خلالها الإشارة الخضراء عدّة مرات، وسارت السيارات كلّها عدا جماعة اليمين، مددت رأسي من النافذة وزرعت ناظريَّ في تجمّعهم، فلم أحصد سوى الخيبة، والغموض، وجدتني ألمح الناس جماعات جماعات، يجيؤون ويروحون على عجل وجلبة، حتى إنّ سيارات طريق الإياب وقفت أيضاً في يمين طريقها، ونزل سائقوها منها، وهذه عادة شائعة عند رؤية أيّ حادث، يدفع الفضولُ أصحابها إلى حبّ الاطّلاع والنظر إلى مصائب الآخرين على الرّغم من ظروف الشهر الكريم، مستغلّين فرصة أنّ رجال الشرطة لم تأتوا بعدُ.
بدأت أقلق وصديقي، ترجّلنا من سيارتنا نروم خلاصاً ممّا نحن فيه دون أن نخالف السير، سرنا نحو التجمّع؛ لنحث الناس على التصرّف، والتسامح ، وتناسي الحادث أواستعجال طلب الشرطة، سرنا، وسرنا...خلال هذا التوقّف القسريّ شاهدَنا بعض الأصدقاء الذين يعبرون بسياراتهم من طريق الإياب، ورفعوا أيديهم مُلْقِيْن بالتحية علينا من بعيد، وعلى عجل، ولقينا كذلك بعض الطلاب في سياراتهم، وأشاروا لنا بالتحيّة أيضاً، قطعنا مسافة شعرنا أنّها طويلة جداً رأينا خلالها عشراتِ السيارات كلُّها واقفة في الرتل الأيمن من الطريق، وسيارتنا تقبع خانعة في المؤخرة، واقتربت من أول جمع صادفني دون أن يكترث بنا أحد منهم، استلطفت أحدهم، وسألته: ما الذي يحدث يا أخي؟ فقال على عجل دون أن يكلّف نفسه عناء الالتفات : ألا ترى أنّ الناس محتشدون عند بيت أحد المحسنين؛ ليأخذوا نصيبهم من طعام الإفطار؟!!
[1] مدينة تقع في سلطنة عمان، وهي ملاصقة لمدينة العين الإماراتية
[2] حيّ من أحياء مدينة العين
قصة قصيرة: أمنية أب
أمنية أب
تشرين الأول 2009 الدكتور أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نادى أبو سعيد ابنه بصوت خفيت يحمل آلام الأيام الماضية القاسية، واتّكأ على عصاه التي رافقته منذ سنوات قليلة، فقد كان يتحسّس بها دربه؛ لتعوّضه عن بصره الذي فقده منذ الطفولة، أما الآن فقد غدت شريكة له في كل شيء بعد أن تمايلت فِقراته، وانحنى ظهره متمالياً تمايل فارس أصابه سهم فانحنى. حضن سعيد أباه، وأمسكه من إبطه إمساك أمّ لوليدها حين انبرى خطب يتهدّده، ساعد سعيد أباه في الجلوس على مَقعده الوثير في شرفة البيت الواسعة، فقد اعتاد أن يلجأ على الدوام إلى تلك الشرفة التي تطلّ على حديقة غنّاء في الطرف الثاني من الشارع حوت من الزهور أصنافاً، ومن الورد أشكالاً وألواناً، تترى فيها على مسامعه أصداح البلابل والعصافير، أسراباً تودّع أسراباً، وأبو سعيد ينسج سعادته على وقعها، ويخيط فرحته بأنامل البشر والطمأنينة، وخيوط الأمل التي أنعم الله بها على ابنه بعد حياة قاسية عاشها الجميع منذ سنوات خلت. بعد لحظات وصل فنجان قهوته الخاصّة التي ارتشفها بمُتعة ما بعدها متعة، وسعيد يجلس إلى جانب أبيه يَنْصِت إليه إنصات مريد ينهل على الدوام من نصائح شيخه، فلا يخالف له أمراً، ولا يراجعه في أي شأن من الشؤون.
ألقى أبوسعيد بفكره ردحاً من الزمن، إلى عقود ولّت إلى غير رجعة، عندما سحبت السعادة بساطها من تحت أرجل العائلة، فغدا الكفاف يغلّف عيش الكفيف من كل جانب، منذ أن نبتت بواكير عمره الأولى، وطوق النجاة معقود على دكان صغيرة تؤمن له، ولزوجه وابنه الوحيد قوت يومهم يوماً بيومٍ. رأى أبو سعيد بابنه عينين يبصر من خلالهما الحياة، وكفّين يتلمس بهما سبل العيش، ومعقِداً للأمل يقيه عثراتِ الأيام، وكلَمات السنين، ورأى سعيد بأبيه ملاذاً يودع فيه كنوز الرضا والوفاء، وردّاً على الزمن بجَوْره وغدره، وأمنيةً في أن يردّ الدين لأبيه، وأن يجعل خاتمة حياته سعيدة بما يشتهي الأبُ؛ ليمسح عن جبهته أرْزاءَ الزمن.
· هل تذكر يا بنيّ تلك الأيام العصيبة التي مرّت بنا؟ كيف كنا نقاوم الجوع، ونتحدّى المرض بفقرنا؛ لأننا لانملك طعاماً نسدّ به رمقنا ولا يهنأ قرش في جيبنا لنزور به طبيباً، نعم تحدينا بعَوَزنا عادياتِ الزمن، وبصبرنا عليها قهرنا نوائبَ الأيام إلى أن منّ الله عليك، وكبرت، وتحقّقت أحلامك.
· نعم يا والدي.
· هل تذكر بيتنا القديم في ذلك الحيّ العشوائي المتطرّف الذي يكاد يلامس شرفتنا فيه جدار إسمنتيّ لجيراننا يمنع عنّا الهواء العليل، ولولاك ما استطعت أن أرسم في مخيلتي صور الحياة التي تحيط بي، وأتعايش مع هذه الأيام.
· نعم يا والدي.
· هلاّ تذكرت عندما كنتَ يافعاً تجثو أمامي، وتخفّفُ عني قساوة الفقر، وجبروتَ الأيام وقتامة السنين، وتبكي إذا شبّهني الناس برهين المحبِسَيْن، ويطول بكاؤك وأنت تعدني بأنك ستحلحل عني ظُلامات الأيام، وأنك ستنقلني إلى بيت فيه الرفاهية تتنامى في كلّ زاوية من زواياه، وتعوضُني عن المحبسين.
· نعم يا والدي.
· الحمد لله الذي مكّنك من تنفيذ شطر من وعدك إذ أبهجتني، ونقلتني إلى بيت فاخر، غرفة نومي فيه من أجود أنواع الخشب المحفور، كلّما أويت إليها، ورأيت تفاصيلها بملمس يديّ تذكرت الأرض التي كنت أفترشها قبل زمن، لقد خصّصتَ لي حماماً فاخراً يذكرني بأيام كنت لا أعرف فيها طريقاً أتقي به لسعات البرد المتسلل من فتحات باب حمّامنا السابق، بالإضافة إلى شرفة قُبالة حديقة لاعهد لنا بها، تعبَق بروائح الفلّ والياسمين من خلالها، وأتنشّق منها نسماتٍ عليلةً نقيّةً تشحنني بالسعادة وتزيدني عزيمة وصحّة، (تحدّث أبو سعيد، وأصابع يديه الاثنتين تتحسس الكرسيّ الوثير الذي حُفِرَ على مِسنَدَيه تمثالان صغيران لحصانين يترجمان أمنية دفينة طالما تمنّى أن تتحقّق ـ ولن تتحقّق ـ في أن يكون فارساً).
· نعم يا والدي أذكر كلّ ذلك.
· على كلّ حال يا بنيّ، ها قد أزِف موعد تحقيق الأماني.
· نعم يا والدي كلّها أيام ويحين موعد إجراء العملية الجراحية لعينيك، وكما شرحت لك إنّ ابن جيراننا المشاغب الذي كان يلعب أمام دكاننا، صار طبيباً مشهوراً طبّقت شهرته الآفاقَ، وسيجري لك العملية بنفسه، ونسبة النجاح كبيرة بإذن الله يا والدي...ستبصر الدنيا على حقيقتها، نعم ستبصر.
رفع أبو سعيد كفيه إلى السماء متضرّعاً، وقد حبست أهداب عينيه دموعاً أبت أن تنزل إلاّ إذا كانت دموعَ فرح بنجاح العملية الجراحية، عندها تتحقّق الأمنيات كلّها، ويفي سعيد بوعوده التي قطعها على نفسه حين كان يافعاً.
مرّت أيام عبثت فيها أصابع الجرّاح بعينيّ أبي سعيد، وهو صامد في محنته، شجاع في حربه مع آخر حِصن من حصون أعدائه، وهو يقول في قرارة نفسه: لِمَ الخوف من الجراحة؟ و...أنا الغريق فما خوفي من البلل.
ها هو ذا أبو سعيد في المشفى يحيط به الطبيب ومساعدوه، وأمّ سعيد، وابنه سعيد، وتحلّق فوق رؤوسهم قلوب محبيه الذين لم يعرف صورتهم قطّ، بل أحبهم من صوتهم
والسمع أوقع في روح الحبيب إذا نادى الحبيب وكان القلب مشغوفا
...فكّ الطبيب لغز العمى لأبي سعيد، وتسلل الضوء إلى عينيه، ليجتمعا بعد عمر من القطيعة بينهما، وتلفّت حوله؛ ليرى مفاتيح أحلامه التي تحققت، الطبيبَ والزوجةَ وابنهَ سعيداً... صرخ بأعلى صوته كالمأفون فرحاً مستبشراً شاكراً ربّه على هذه النعمة، شادّاً على يد ابنه بحرارة، وهم يغادرون المشفى ويركبون السيارة التي ستقلّهم إلى البيت، وأبو سعيد يتلفّت يمنة ويسرة، ليربط لأول مرّة بين الصوت والصورة، ويعيدّ ترتيب المشاهد، والتعرّف على من حوله من جديد.
رقصت السيارة بأصحابها في كلّ شارع مرّت به، وزغردت مع كلّ زُقاق عبرت من خلاله هذا الحيّ العشوائي، وصعد الجميع درج بيت بسيط، وأبو سعيد يحبس في طياته سؤالاً لم يطرحه على أحد: أين نذهب، في هذا الحيّ المتطرّف المتواضع؟ هل يذكرونني بفقرنا القديم؛ لأزداد سعادة؟ ولماذا يأخذونني إلى هذا المكان في أوّل صلح أعقده في حياتي مع هذا الضوء؟ دخل الجميع باب البيت، وهو يجول الطرف متلفّتاً في أرجائه، ليلمح غرفةَ نوم من أجود أنواع الخشب المحفور، وشرفةً صغيرة يكاد يلامسها جدار إسمنتيّ للجيران يمنع عن الشرفة الهواء العليل، ومروحةً بسيطة تتّكئ على طاولة صغيرة في زاوية الشرفة تتصدّق على الجالسين ببعض النسمات، يعلوها قفص كبير فيه عصافير وبلابل متنوعة تصدح على الدوام، وكرسي وثير حُفِرَ على مِسنديه تمثالان صغيران لحصانين، وأمام الكرسي دورق كبير حوى من الورد المشترى كلّ يوم أصنافاً، وأشكالاً، وألواناً تعبَق من خلالها روائح الفلّ والياسمين، عندها نظر أبو سعيد إلى ابنه نظرة تختزل المعانيَ كلّها، وهزّ رأسه بسعادة المدرك لما جرى، وانسلّت من خلف أهداب عينيّه دمعة حبيسة كانت تأبى النزول إلاّ في يوم الفرح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نادى أبو سعيد ابنه بصوت خفيت يحمل آلام الأيام الماضية القاسية، واتّكأ على عصاه التي رافقته منذ سنوات قليلة، فقد كان يتحسّس بها دربه؛ لتعوّضه عن بصره الذي فقده منذ الطفولة، أما الآن فقد غدت شريكة له في كل شيء بعد أن تمايلت فِقراته، وانحنى ظهره متمالياً تمايل فارس أصابه سهم فانحنى. حضن سعيد أباه، وأمسكه من إبطه إمساك أمّ لوليدها حين انبرى خطب يتهدّده، ساعد سعيد أباه في الجلوس على مَقعده الوثير في شرفة البيت الواسعة، فقد اعتاد أن يلجأ على الدوام إلى تلك الشرفة التي تطلّ على حديقة غنّاء في الطرف الثاني من الشارع حوت من الزهور أصنافاً، ومن الورد أشكالاً وألواناً، تترى فيها على مسامعه أصداح البلابل والعصافير، أسراباً تودّع أسراباً، وأبو سعيد ينسج سعادته على وقعها، ويخيط فرحته بأنامل البشر والطمأنينة، وخيوط الأمل التي أنعم الله بها على ابنه بعد حياة قاسية عاشها الجميع منذ سنوات خلت. بعد لحظات وصل فنجان قهوته الخاصّة التي ارتشفها بمُتعة ما بعدها متعة، وسعيد يجلس إلى جانب أبيه يَنْصِت إليه إنصات مريد ينهل على الدوام من نصائح شيخه، فلا يخالف له أمراً، ولا يراجعه في أي شأن من الشؤون.
ألقى أبوسعيد بفكره ردحاً من الزمن، إلى عقود ولّت إلى غير رجعة، عندما سحبت السعادة بساطها من تحت أرجل العائلة، فغدا الكفاف يغلّف عيش الكفيف من كل جانب، منذ أن نبتت بواكير عمره الأولى، وطوق النجاة معقود على دكان صغيرة تؤمن له، ولزوجه وابنه الوحيد قوت يومهم يوماً بيومٍ. رأى أبو سعيد بابنه عينين يبصر من خلالهما الحياة، وكفّين يتلمس بهما سبل العيش، ومعقِداً للأمل يقيه عثراتِ الأيام، وكلَمات السنين، ورأى سعيد بأبيه ملاذاً يودع فيه كنوز الرضا والوفاء، وردّاً على الزمن بجَوْره وغدره، وأمنيةً في أن يردّ الدين لأبيه، وأن يجعل خاتمة حياته سعيدة بما يشتهي الأبُ؛ ليمسح عن جبهته أرْزاءَ الزمن.
· هل تذكر يا بنيّ تلك الأيام العصيبة التي مرّت بنا؟ كيف كنا نقاوم الجوع، ونتحدّى المرض بفقرنا؛ لأننا لانملك طعاماً نسدّ به رمقنا ولا يهنأ قرش في جيبنا لنزور به طبيباً، نعم تحدينا بعَوَزنا عادياتِ الزمن، وبصبرنا عليها قهرنا نوائبَ الأيام إلى أن منّ الله عليك، وكبرت، وتحقّقت أحلامك.
· نعم يا والدي.
· هل تذكر بيتنا القديم في ذلك الحيّ العشوائي المتطرّف الذي يكاد يلامس شرفتنا فيه جدار إسمنتيّ لجيراننا يمنع عنّا الهواء العليل، ولولاك ما استطعت أن أرسم في مخيلتي صور الحياة التي تحيط بي، وأتعايش مع هذه الأيام.
· نعم يا والدي.
· هلاّ تذكرت عندما كنتَ يافعاً تجثو أمامي، وتخفّفُ عني قساوة الفقر، وجبروتَ الأيام وقتامة السنين، وتبكي إذا شبّهني الناس برهين المحبِسَيْن، ويطول بكاؤك وأنت تعدني بأنك ستحلحل عني ظُلامات الأيام، وأنك ستنقلني إلى بيت فيه الرفاهية تتنامى في كلّ زاوية من زواياه، وتعوضُني عن المحبسين.
· نعم يا والدي.
· الحمد لله الذي مكّنك من تنفيذ شطر من وعدك إذ أبهجتني، ونقلتني إلى بيت فاخر، غرفة نومي فيه من أجود أنواع الخشب المحفور، كلّما أويت إليها، ورأيت تفاصيلها بملمس يديّ تذكرت الأرض التي كنت أفترشها قبل زمن، لقد خصّصتَ لي حماماً فاخراً يذكرني بأيام كنت لا أعرف فيها طريقاً أتقي به لسعات البرد المتسلل من فتحات باب حمّامنا السابق، بالإضافة إلى شرفة قُبالة حديقة لاعهد لنا بها، تعبَق بروائح الفلّ والياسمين من خلالها، وأتنشّق منها نسماتٍ عليلةً نقيّةً تشحنني بالسعادة وتزيدني عزيمة وصحّة، (تحدّث أبو سعيد، وأصابع يديه الاثنتين تتحسس الكرسيّ الوثير الذي حُفِرَ على مِسنَدَيه تمثالان صغيران لحصانين يترجمان أمنية دفينة طالما تمنّى أن تتحقّق ـ ولن تتحقّق ـ في أن يكون فارساً).
· نعم يا والدي أذكر كلّ ذلك.
· على كلّ حال يا بنيّ، ها قد أزِف موعد تحقيق الأماني.
· نعم يا والدي كلّها أيام ويحين موعد إجراء العملية الجراحية لعينيك، وكما شرحت لك إنّ ابن جيراننا المشاغب الذي كان يلعب أمام دكاننا، صار طبيباً مشهوراً طبّقت شهرته الآفاقَ، وسيجري لك العملية بنفسه، ونسبة النجاح كبيرة بإذن الله يا والدي...ستبصر الدنيا على حقيقتها، نعم ستبصر.
رفع أبو سعيد كفيه إلى السماء متضرّعاً، وقد حبست أهداب عينيه دموعاً أبت أن تنزل إلاّ إذا كانت دموعَ فرح بنجاح العملية الجراحية، عندها تتحقّق الأمنيات كلّها، ويفي سعيد بوعوده التي قطعها على نفسه حين كان يافعاً.
مرّت أيام عبثت فيها أصابع الجرّاح بعينيّ أبي سعيد، وهو صامد في محنته، شجاع في حربه مع آخر حِصن من حصون أعدائه، وهو يقول في قرارة نفسه: لِمَ الخوف من الجراحة؟ و...أنا الغريق فما خوفي من البلل.
ها هو ذا أبو سعيد في المشفى يحيط به الطبيب ومساعدوه، وأمّ سعيد، وابنه سعيد، وتحلّق فوق رؤوسهم قلوب محبيه الذين لم يعرف صورتهم قطّ، بل أحبهم من صوتهم
والسمع أوقع في روح الحبيب إذا نادى الحبيب وكان القلب مشغوفا
...فكّ الطبيب لغز العمى لأبي سعيد، وتسلل الضوء إلى عينيه، ليجتمعا بعد عمر من القطيعة بينهما، وتلفّت حوله؛ ليرى مفاتيح أحلامه التي تحققت، الطبيبَ والزوجةَ وابنهَ سعيداً... صرخ بأعلى صوته كالمأفون فرحاً مستبشراً شاكراً ربّه على هذه النعمة، شادّاً على يد ابنه بحرارة، وهم يغادرون المشفى ويركبون السيارة التي ستقلّهم إلى البيت، وأبو سعيد يتلفّت يمنة ويسرة، ليربط لأول مرّة بين الصوت والصورة، ويعيدّ ترتيب المشاهد، والتعرّف على من حوله من جديد.
رقصت السيارة بأصحابها في كلّ شارع مرّت به، وزغردت مع كلّ زُقاق عبرت من خلاله هذا الحيّ العشوائي، وصعد الجميع درج بيت بسيط، وأبو سعيد يحبس في طياته سؤالاً لم يطرحه على أحد: أين نذهب، في هذا الحيّ المتطرّف المتواضع؟ هل يذكرونني بفقرنا القديم؛ لأزداد سعادة؟ ولماذا يأخذونني إلى هذا المكان في أوّل صلح أعقده في حياتي مع هذا الضوء؟ دخل الجميع باب البيت، وهو يجول الطرف متلفّتاً في أرجائه، ليلمح غرفةَ نوم من أجود أنواع الخشب المحفور، وشرفةً صغيرة يكاد يلامسها جدار إسمنتيّ للجيران يمنع عن الشرفة الهواء العليل، ومروحةً بسيطة تتّكئ على طاولة صغيرة في زاوية الشرفة تتصدّق على الجالسين ببعض النسمات، يعلوها قفص كبير فيه عصافير وبلابل متنوعة تصدح على الدوام، وكرسي وثير حُفِرَ على مِسنديه تمثالان صغيران لحصانين، وأمام الكرسي دورق كبير حوى من الورد المشترى كلّ يوم أصنافاً، وأشكالاً، وألواناً تعبَق من خلالها روائح الفلّ والياسمين، عندها نظر أبو سعيد إلى ابنه نظرة تختزل المعانيَ كلّها، وهزّ رأسه بسعادة المدرك لما جرى، وانسلّت من خلف أهداب عينيّه دمعة حبيسة كانت تأبى النزول إلاّ في يوم الفرح.
قصة قصيرة: الملهوف
الملهوف
د/أمان الدين محمد حتحات العين 24/10/2008
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقف صلاح أمام النافذة يتأمّل بحر الرمال الذي يحيط بمنزله في بلاد الغربة، الحرارة أقوى من أن تحتمل، لاسيّما أيّام القيظ والرطوبة حيث يتعرّق زجاج البيوت والسيارات من الخارج فيستحيل قطرات تحاكي قطرات العمر الذي ينزفه يوماً بعد يوم، وهذا عكس ما ألفه في بلده، فشتان بين نار كاوية تذكره بـ"ببّور العكس" الذي يستخدمه "السنكري" أبو طه في لحام القصدير، وبرودة طبيعية في بلده تنعش الفؤاد، وتزيده ألقاً وشباباً، لكن الضريبة يجب أن تُدفع فالرغبة في بناء الذات لها ثمن رضينا به، والشعور بالانتماء لأمة عربية واحدة، يجعلنا لا نتردّد في خدمة أيّ بلد عربيّ يحتاجنا.
شريط من الذكريات يداعب مخيلته على الدوام، وبخاصّة أيام الإجازة وهي التي ينتظر فيها استلام رسالة من زوجته وأولاده، أو من أمّه، أو من صديق أو غير ذلك من الرسائل حيث حرص على استئجار صندوق بريديّ منذ الأيام الأولى التي حطّ فيها رحله في هذا البلد الكريم.
نزل من بيته واستقلّ سيارته نحو البريد المركزي؛ ليتفقّد صندوقه العتيد، الجوّ لا يطاق من شدّة الحرّ، وجه مكوّر محمرّ تقبع في وسطه جمرتان من نار خبّأهما صلاح بنظّارة سوداء داكنة، حبّات العرق تقطر من ذقنه لتعكس أشعة الشمس التي تتحدّى برودة المكيّف فلا يجدي معها فتيلاً، ومن بعيد تتراقص أخيلة السراب على الطريق الإسفلتيّ فتتحوّل مشاعره من جديد لتقارن بين جلسة على شرفة بيته هناك ونسمات الليل تداعب شعر ابنته الصغيرة، يهدهد لها لتنام في حضنه سعيداً، فينسى في ذلك مرارة غربته، وجلسة أخرى في زاوية بيته الواسع، يتأمل الجدران والسقف، وهو رهين المحبسين: البيت والغربة.
دقائق مرّت ووصل إلى البريد المركزي، خرج من سيارته مهرولاً كأنّه رجل بأناقته الكاملة يهرب من سيل ماطر في شارع مكشوف والرياح العاتية تمشّط شوارع المدينة فلا تترك زاوية دون أن يطالها المطر الغزير. جفّف عرقه على عجل ودلف إلى داخل المبنى الأنيق المبرّد ليستردّ بعضاً من الروح التي كادت أن تزهق.
فتح علبة البريد التي يطلّ من خلالها على بلده، يشمّ العبق، ويملأ رئتيه برحيق الرسائل وتقفز عيناه بين الأحرف، بل بين الكلمات، بل بين الأسطر ليطمئنّ على كلّ شيء من خلال هذه الكوّة النافذة، خرج من المبنى المبرّد وهو يقرأ، لفحته سياط القيظ وهو يقرأ أخبار الأهل، يبتسم حيناً، وتجحظ عيناه في قراءة بعض الكلمات حيناً، ويكرّر السباحة بين كثير من الأسطر أحايين أخرى. لمح بطرف عينه ثلاجة آلية فيها كثير من أنواع المشروبات الباردة، فأراد أن يطفئ عطشه بعلبة ممّا يحبّ بعد أن أخذ الحرّ منه كلّ مأخذ، أخرج درهماً من بين الدراهم التي يحتفظ بها على الدوام لتسعفه في تلك اللحظات، فتطفئ حرارة جوفه العطش، وضع الدرهم في المكان المخصّص له واختار ما تتوق إليه نفسه طوعاً، ضغط الزرّ دون ردّ، كرّر الأمر وتكرّر الجواب، حاول استرداد الدرهم دون جدوى، فالدرهم خرج من جيبه ولن يعود، وحتّى لا يقع ضحيّة للجهاز المعطّل مرّة أخرى بلع ريقه وقفل راجعاً إلى سيارته.
لمحت خلفي حركة من صبي ـ كان يراقبني ـ يهرع خلسة نحو مطفئ الظمأ المعطّل، لم يشعر الصبيّ أنني أراقبه خلسة كذلك، ضرب الجهاز بخبرة عدّة ضربات متناغمة ليلد له ما كنت أمنّي النفس به قبل لحظات، أمسك الصبيُّ الوليدَ برفق وعناية بكلتا يديه؛ ليسرق البرودة من جدار العلبة التي راحت تنضح بين يديه قطرات من الثلج الذي يغلّفُها تلو قطرات، ابتسم الصياد لطريدته التي جاءته دون مقابل، واستمرّت مراقبتي له دون أن يشعر فقد شُغِل عن الدنيا بالعلبة الباردة؛ فتح العلبة طرِباً بصوت فرقعتها ونزع من أعلاها صمّام الأمان، وقرّب شَفَتَها بيده بقدر ما قرّب رأسه ومطّ شفتيه نحوها ليلثِم فاها، وبسرعة البرق كنت خلفه وفوقه منحنياً كالمارد أمسكت العلبة المنشودة قبل أن يرشف منها شهدها، وأخذتها من علٍ، مارّاً بها فوق رأسه، وعرف أنّ حُلمه قد طار وتبخّر بطرفة عين، التفتَ يتابع العلبة الطائرة غير مستوعب للخطب.
· هذه لي ومن حقّي ( قلت له مبتسماً ).
جاوبني بابتسامة خائفة مستسلمة معبرة دون أن يتفوّه بكلمة واحدة، فجثوت أمامه أبادله المشاعر بابتسامة مخلصة مطمئنة وادعة، وأخذته من يده نحو الثلاجة ناسياً الحرّ والقيظ، وأنا أقول له:
· اختر ما تريد.
فهم قصدي وبادلني الابتسامة بأحسن منها، مشيراً إلى العبوة التي أمسكها بيدي، بعد أن خطفتُها من بين شفتيه، أخذ الصبي علبة جديدة من الجهاز، وشرعنا في هذا القيظ نرشف معاً بسعادة أجمل مشروب تذوقته في حياتي.
د/أمان الدين محمد حتحات العين 24/10/2008
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقف صلاح أمام النافذة يتأمّل بحر الرمال الذي يحيط بمنزله في بلاد الغربة، الحرارة أقوى من أن تحتمل، لاسيّما أيّام القيظ والرطوبة حيث يتعرّق زجاج البيوت والسيارات من الخارج فيستحيل قطرات تحاكي قطرات العمر الذي ينزفه يوماً بعد يوم، وهذا عكس ما ألفه في بلده، فشتان بين نار كاوية تذكره بـ"ببّور العكس" الذي يستخدمه "السنكري" أبو طه في لحام القصدير، وبرودة طبيعية في بلده تنعش الفؤاد، وتزيده ألقاً وشباباً، لكن الضريبة يجب أن تُدفع فالرغبة في بناء الذات لها ثمن رضينا به، والشعور بالانتماء لأمة عربية واحدة، يجعلنا لا نتردّد في خدمة أيّ بلد عربيّ يحتاجنا.
شريط من الذكريات يداعب مخيلته على الدوام، وبخاصّة أيام الإجازة وهي التي ينتظر فيها استلام رسالة من زوجته وأولاده، أو من أمّه، أو من صديق أو غير ذلك من الرسائل حيث حرص على استئجار صندوق بريديّ منذ الأيام الأولى التي حطّ فيها رحله في هذا البلد الكريم.
نزل من بيته واستقلّ سيارته نحو البريد المركزي؛ ليتفقّد صندوقه العتيد، الجوّ لا يطاق من شدّة الحرّ، وجه مكوّر محمرّ تقبع في وسطه جمرتان من نار خبّأهما صلاح بنظّارة سوداء داكنة، حبّات العرق تقطر من ذقنه لتعكس أشعة الشمس التي تتحدّى برودة المكيّف فلا يجدي معها فتيلاً، ومن بعيد تتراقص أخيلة السراب على الطريق الإسفلتيّ فتتحوّل مشاعره من جديد لتقارن بين جلسة على شرفة بيته هناك ونسمات الليل تداعب شعر ابنته الصغيرة، يهدهد لها لتنام في حضنه سعيداً، فينسى في ذلك مرارة غربته، وجلسة أخرى في زاوية بيته الواسع، يتأمل الجدران والسقف، وهو رهين المحبسين: البيت والغربة.
دقائق مرّت ووصل إلى البريد المركزي، خرج من سيارته مهرولاً كأنّه رجل بأناقته الكاملة يهرب من سيل ماطر في شارع مكشوف والرياح العاتية تمشّط شوارع المدينة فلا تترك زاوية دون أن يطالها المطر الغزير. جفّف عرقه على عجل ودلف إلى داخل المبنى الأنيق المبرّد ليستردّ بعضاً من الروح التي كادت أن تزهق.
فتح علبة البريد التي يطلّ من خلالها على بلده، يشمّ العبق، ويملأ رئتيه برحيق الرسائل وتقفز عيناه بين الأحرف، بل بين الكلمات، بل بين الأسطر ليطمئنّ على كلّ شيء من خلال هذه الكوّة النافذة، خرج من المبنى المبرّد وهو يقرأ، لفحته سياط القيظ وهو يقرأ أخبار الأهل، يبتسم حيناً، وتجحظ عيناه في قراءة بعض الكلمات حيناً، ويكرّر السباحة بين كثير من الأسطر أحايين أخرى. لمح بطرف عينه ثلاجة آلية فيها كثير من أنواع المشروبات الباردة، فأراد أن يطفئ عطشه بعلبة ممّا يحبّ بعد أن أخذ الحرّ منه كلّ مأخذ، أخرج درهماً من بين الدراهم التي يحتفظ بها على الدوام لتسعفه في تلك اللحظات، فتطفئ حرارة جوفه العطش، وضع الدرهم في المكان المخصّص له واختار ما تتوق إليه نفسه طوعاً، ضغط الزرّ دون ردّ، كرّر الأمر وتكرّر الجواب، حاول استرداد الدرهم دون جدوى، فالدرهم خرج من جيبه ولن يعود، وحتّى لا يقع ضحيّة للجهاز المعطّل مرّة أخرى بلع ريقه وقفل راجعاً إلى سيارته.
لمحت خلفي حركة من صبي ـ كان يراقبني ـ يهرع خلسة نحو مطفئ الظمأ المعطّل، لم يشعر الصبيّ أنني أراقبه خلسة كذلك، ضرب الجهاز بخبرة عدّة ضربات متناغمة ليلد له ما كنت أمنّي النفس به قبل لحظات، أمسك الصبيُّ الوليدَ برفق وعناية بكلتا يديه؛ ليسرق البرودة من جدار العلبة التي راحت تنضح بين يديه قطرات من الثلج الذي يغلّفُها تلو قطرات، ابتسم الصياد لطريدته التي جاءته دون مقابل، واستمرّت مراقبتي له دون أن يشعر فقد شُغِل عن الدنيا بالعلبة الباردة؛ فتح العلبة طرِباً بصوت فرقعتها ونزع من أعلاها صمّام الأمان، وقرّب شَفَتَها بيده بقدر ما قرّب رأسه ومطّ شفتيه نحوها ليلثِم فاها، وبسرعة البرق كنت خلفه وفوقه منحنياً كالمارد أمسكت العلبة المنشودة قبل أن يرشف منها شهدها، وأخذتها من علٍ، مارّاً بها فوق رأسه، وعرف أنّ حُلمه قد طار وتبخّر بطرفة عين، التفتَ يتابع العلبة الطائرة غير مستوعب للخطب.
· هذه لي ومن حقّي ( قلت له مبتسماً ).
جاوبني بابتسامة خائفة مستسلمة معبرة دون أن يتفوّه بكلمة واحدة، فجثوت أمامه أبادله المشاعر بابتسامة مخلصة مطمئنة وادعة، وأخذته من يده نحو الثلاجة ناسياً الحرّ والقيظ، وأنا أقول له:
· اختر ما تريد.
فهم قصدي وبادلني الابتسامة بأحسن منها، مشيراً إلى العبوة التي أمسكها بيدي، بعد أن خطفتُها من بين شفتيه، أخذ الصبي علبة جديدة من الجهاز، وشرعنا في هذا القيظ نرشف معاً بسعادة أجمل مشروب تذوقته في حياتي.
قصة قصيرة: الحقيبة
الحقـيبة
تشرين الثاني 2007 د / أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مَِشنقتان علّقتا في ساحة باب الفرج جعلتا حلب تخرج على بَكْرة أبيها؛ لتراهما؛ لترى الرجلين الشابين وقد سحبتهما الجاذبية الأرضية، ومازالا يتأرجحان في الهواء كتأرجح رقّاص الساعة عند بائعي الساعات الذين يحيطون بساحة باب الفرج.
كنت يافعاً أسابق الريح عندما أركض، وأطاول عَنان السماء إذا قفزت، وكان خبر المشنقتين المنصوبتين كفيلاً بأن أتسابق مع أخْداني تضرب أعقابُنا ظهورَنا من السرعة، لم نشاهد من قبلُ مشنوقاً، ولا مذبوحاً، ولا مجروحاً، لم تخدش أحلامَنا الورديّةَ صورُ العنف، والقتل، ولا حتّى صورُ العِقاب أو القِصاص.
عبرنا الشوارع، والساحات غيرَ مبالين بسيارة عابرة، أو "طرماي" تقضم الطريق ملتهمة قضبانَها المبسوطةَ فيها انبساط الأفعى التي دخلت في سُباتها الشتوي، همّنا الوحيدُ أن نرى المشنوقين وهما معلّقان، قبل أن يتمّ إنزالهما من المنصّة خوفاً من ردّة فعل غيرِ متوقّعة، هكذا جرت العادة.
وأخيراً رأيناهما من بعيد ظاهرَيْن للعِيان على منصّة مرتفعة، اقتربت منهما بعد أن باعدت الجموع بيني وبين أخداني، واقتربت أكثر فأكثر متفادياً أشعّة الشمس التي حالت دون وضوح الرؤية بشكل صافٍ، خاتلت أشعة الشمس، وتحايلت عليها يمنة ويسرة حتّى تمكنت منها؛ كي لا تقف أشعتُها عائقاً بين المعلّقَيْن من جهة وفضولٍ إلى رؤيتهما من جهة أخرى.
كنت صغيراً بل قصيراً مقارنة مع من حولي من الجموع، وقفت على أطراف أصابعي، واشرأبّت عنقي لأصل إليهما أكثر، وجحظت عيناي تتلمّسان قرباً من الهدف المنشود، ولم أعبأ بمن وطِأ رجلي، أو نهرني بمَرْفِقِه على وجهي، فعمليّة الشنق بحدّ ذاتها أكبر من أيّ صعوبة أصادفها؛ لأنها لن تتكرّر فيما أظنّ مرّة ثانية أمامي.
بعد لأْيٍ ومشقّة تمكّنت من تلمّس ما كُتِب على صدريهما من سبب الشنق، وخلاصة الأحكام، شيءٌ مخيف ورائع من هول فعلتهما التي ظلّت لغزاً حيّرني لفترة طويلة من الزمن...
كانا شابَّيْن في عمر الورد استهوتهما عادة ركوب الدراجات النارية، وهي هواية لا تَمُتّ إلى البراءة بشيء آنذاك يتجوّلان بين الأحياء كطلقة مسدّس في فراغ ساكن، يضخّون خلفهم غيوماً سوداء تؤذي الإحساس، وتخدش الذوق، وتستأصل المدنيّة من جذورها؛ فيزرعوا الهلع والذعر في نفوس معظم الناس، وينثروا المتعة عند نفر من الصبية، فكثيراً ما كنّا نرى صبيّاً منتخَباً خلف أحدهما ينطلقان به إلى جهة لا نُبَرِّئ أحداً منهم في هذه الرحلة المشبوهة.
وأمر هواية الدراجات النارية آنذاك أمر خطير في الغالب يحتاج إلى مال كثير للإنفاق على مستلزمات هذه الهواية اللعينة، وما يتبعها من شرب وتدخين بكلّ أنواعه، وما خفي كان أعظم، الشيءُ الذي يدفع الهاوي إلى البحث عن مصادر التمويل.
توجّهت أنظار بكّار وصافي إلى منزل خالة بكار، تلك العجوز التي بلغت من العُمُْر عِتِيّا، تسكن وحدها في مبنى قديم متهالك من طابقين لا يضمّ إلا القليل من الجيران كبار السنّ، تقرأ من حجارته أعمار ساكنيه، وتَعُدّ شاغليه من عدد شققه التي لا تصل لأصابع الكفّ الواحدة.
رسم بكّار وصافي خطّتهما على عجل دفعهما إلى عدم حساب النتائج، وإلى دفع الفاتورة غالية جدّاً...زيارةٌ واحدة لبيت خالته، أو اثنتان جعلت بكاراً يعرف أخبار خالته التي تحبّه وترى فيه على الدوام ملامح أختها المتوفّاة...لمسةُ حنان من الخالة، وتقبيلٌ للأيادي من بكار جعلت الخالة تفضي إليه بمكنوناتها، وتكشف له عن أخبارها اليومية بكل صدق وبساطة ظانّةً أنه جاء ليلبيَ لها بعضَ حاجيّاتها، لكنّها لم تدر أن وراء الأَكَمَة ما وراءها، ولم تعرف أنّه يرش لها (الدرة) على لغة (الحميماتية) في حلب، وفعلاً قضى لها بعض الأغراض التي يحتاجها كبار السنّ من أبنائهم، أو أقاربهم المقرّبين، ثمّ شرب قهوته التي شاركها في صنعها في مطبخ البيت، وقرأت له فنجانه الذي أسعده عندما قالت له: إنّ سمكةَ رزق قادمةٌ إليك، وإنّ بنتَ الحلال ستطرق باب قلبك، وغيرُ ذلك مما يُطْرَب له السذَّجُ من الناس، كانت عيناه تمسح كلّ ركن من أركان البيت، بل إنّ نظرة عينيه الثاقبة رأت ما وراء الجدران، ونفذت إلى ما خلف أبواب الخزائن وفحصت ما بداخلها...لِمَ لا وهو يحمل في طيّاته كلَّ نيّة سيّئة، و يُضْمِر في ثنايا سريرته مشاعر ربّما لا يحملها الإنسان لعدوّه، قبّل يديها طالباً الدعاء، وغادرها مساء بعد أن عرف يقيناً أنها قد باعت عَقاراً متواضعاً كان قد خلّفه لها المرحوم لوقت الشدّة والعِوَز.
كان صافي وأمير ـ وهو فتى في الخامسةَ عشرةَ من عمره ـ يقفان في طرف الشارع ينتظران مهندس العمليّة، ومُخْرِجَها الذي قرّر بيع خالته من أجل حفنة من الليرات فهو الذي سيعطي إشارة البدء...نزل بكار من ميدان العمليّات، وخطا خطوات الواثق المتزن المنتشي، وتقوقع الثلاثة في جلسة همس ؛ لتدارسِ الوضع الميداني...فاتُّخِذَ القرارُ:...سنعود الآن فوراً إلى بيت خالتي أنا وصافي وأنت يا أمير تراقب مدخل العمارة وترنّ لنا الجرس الموجود عند باب البناء رنّة مستمرّة طويلة إذا اشتبهت بأحد يدخل المبنى، أو توجّست من أمر خيفة، وأميرٌ أصغر من أن يُعَرَّف بتفصيلات الخطّة، اللهمّ إلاّ أنّهم سيسرقون، وأنّ له من الطيّب نصيباً.
تسلّق الاثنان درج المبنى بلصوصيّة محترفة، كلّ يتلفّت حوله وقد اتّشح كلّ منهما بلفاحة اعتاد أن يضعها حول رقبته حيناً، ويتلثّم بها بحجّة البرد حيناً آخر إذا أراد إخفاء ملامحه...كانت المسافة بينهما كافية؛ لتُمَكِّنَهما من رصد طابقَيْ المبنى بشكل كامل، ولم تُعِقِ العتمةُ داخل المبنى صعودَهما، ذلك لأنّ الخالة أطفأت نور الدرج من داخل بيتها شأنُ كل العمارات القديمة، وقفلت الباب من الداخل، كما هي العادة عند جدّاتنا، بل عندنا نحن كذلك.
قرع بكار جرس الباب مسمعاً خالته صوته؛ لتطمئنّ للطارق،...وببطء متكاسل أُنِيْرَ البيت من الداخل، وتهادى صوت الخالة المتهدّج بحنان: خير يابكار...(خاله نسيت مفاتيحي)، فُتِح الباب ليدخلَ بكار ... وينسلَّ وراءه صافي انسلال سكين ماضية في جسد شاة تُسلخ وهي معلّقة... شعرت الخالة من طريقة دخولهما أنّ في الأمر ما يريب... حاولت رفع صوتها مستغيثة ... لحظات وكانت الخالة قد ذُبِحَتْ ذبح النعاج، لم يتركوا لها مجالاً لكلمة، ولم تنفعها توسلات أو استرحام، ولم تُتَحْ لها صيحة استغاثة، أو همسة نجدة، لم يرحموا صلة رحِم أو نسب، ولم تشفع لها صرخات ثمانية عقود من الزمن، أو رجفات اعتلال أو رعشات مرض، كلّ شيء فيها يحاول أن يستغيث، ولا حياة لمن تنادي، فقد وضعوا كواتم الصوت على سكاكينهم، وعوادم الرحمة في آذانهم.
دقائق وبكار وصافي يقفزان فوق درج المبنى قفزَ من يمشي حافياً على جمر متوقّد حاشا سحرةَ الهند والشرق، يتّكئان على " دربزونه " الحديدي المرتجف من فعلتهما، كانا يحملان حقيبة سفر صغيرة فيها الغنيمة والسعادة والهناء، حقيبة ستنتشلهما من العوز والحاجة التي يتصورانها،، راحا يحلمان بالتوبة إلى الله إذا لم يُكْشف أمرهما شأنُهما شأنُ كلّ مجرم، وبالزواج وتأسيس أسرة شأنُ كلّ شابّ، ودكانٍ لتأجير الدراجات النارية والهوائية شأنُ من يبحث عن مُتعة رخيصة.
اتّجه الثلاثة إلى بيت متواضع استأجره بكار وصافي منذ مدّة يختلون به لقضاء أوقات لهوهم ومتعتهم، ومشروبهم، ولقيمات يقيمون بها أصلابَهم، كانت نشوة النصر فوق كلّ نشوة، نصر أنساهم مرارة فعلتهم، في طريقهم اشتروا دجاجتين مشويّتين وهي أسرع وجبة يمكن الحصول عليها، و " نصّية من حليب السباع " كما يسمّيه الحلبيّون وقليل من القضامة وفستق العبيد... دخلوا البيت، وقبل أن يأكلوا قرّروا اقتسام الغنائم، وضعوا الحقيبة الجلدية المقفلة بينهم لفتحها، التفوا حولها التفاف الضباع على فريستهم، كان وزن الحقيبة موحياً بأنّ فيها مبلغاً كبيراً من المال، وثقلُها بالنسبة إليهم سعادة غامرة، وثروة عامرة، كانت نشوتُهم وضحكاتُهم لا تفارقهم، وهي فوق كلّ اعتبار... استعصت الحقيبة على فاتحيها، ولعلّ التسرّعَ والارتباك هما السببُ، لكنّ آخرَ الدواءِ الكيُّ... ضربة واحدة من " شبريّة " صافي في خاصرة الحقيبة أخرجت أمعاءها وبسطت محتواياتها أمامهم على الفور، نبشوا المحتويات، ومسحوا الحقيبة من داخلها تبادلوا نظرات اللؤم والخيبة والوعيد فيما بينهم واحتبس الدم في عروقهم ، وتعثرت الكلمات على شفاههم وقرأ بكار ملامح صافي السيئة في تلك اللحظة العصيبة، فسوء التخطيط، وعدم الدقّة أوصلانا إلى هذه الطريق المسدودة لكنّ بكاراً وبعصبية القاتل الذي لا مانع لديه من القتل ثانية وثالثة بادلهما النظرات من العيار نفسه مستمرّاً في نبش أشلاء الحقيبة تفقّد جيوبها الداخلية وهزّ الأغراض واحداً تلوَ الآخر وأعمل يديه في كلّ كمّ وجيب وثنية وتجويف ولم يعثر إلاّ على خيبة الأمل وأغراض خاصّة، ومعطف نسائي، وحذاء، وثوب لتنام فيه عندما ستزور أخاها، وحقيبة يد نسائية صغيرة فيها بعضٌ من النقود المعدنية وورقةٌ بنكية رسميّة مكتوب عليها ((إيصال بإيداع مبلغ في المصرف التجاري السوري))
15/11/2007
تشرين الثاني 2007 د / أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مَِشنقتان علّقتا في ساحة باب الفرج جعلتا حلب تخرج على بَكْرة أبيها؛ لتراهما؛ لترى الرجلين الشابين وقد سحبتهما الجاذبية الأرضية، ومازالا يتأرجحان في الهواء كتأرجح رقّاص الساعة عند بائعي الساعات الذين يحيطون بساحة باب الفرج.
كنت يافعاً أسابق الريح عندما أركض، وأطاول عَنان السماء إذا قفزت، وكان خبر المشنقتين المنصوبتين كفيلاً بأن أتسابق مع أخْداني تضرب أعقابُنا ظهورَنا من السرعة، لم نشاهد من قبلُ مشنوقاً، ولا مذبوحاً، ولا مجروحاً، لم تخدش أحلامَنا الورديّةَ صورُ العنف، والقتل، ولا حتّى صورُ العِقاب أو القِصاص.
عبرنا الشوارع، والساحات غيرَ مبالين بسيارة عابرة، أو "طرماي" تقضم الطريق ملتهمة قضبانَها المبسوطةَ فيها انبساط الأفعى التي دخلت في سُباتها الشتوي، همّنا الوحيدُ أن نرى المشنوقين وهما معلّقان، قبل أن يتمّ إنزالهما من المنصّة خوفاً من ردّة فعل غيرِ متوقّعة، هكذا جرت العادة.
وأخيراً رأيناهما من بعيد ظاهرَيْن للعِيان على منصّة مرتفعة، اقتربت منهما بعد أن باعدت الجموع بيني وبين أخداني، واقتربت أكثر فأكثر متفادياً أشعّة الشمس التي حالت دون وضوح الرؤية بشكل صافٍ، خاتلت أشعة الشمس، وتحايلت عليها يمنة ويسرة حتّى تمكنت منها؛ كي لا تقف أشعتُها عائقاً بين المعلّقَيْن من جهة وفضولٍ إلى رؤيتهما من جهة أخرى.
كنت صغيراً بل قصيراً مقارنة مع من حولي من الجموع، وقفت على أطراف أصابعي، واشرأبّت عنقي لأصل إليهما أكثر، وجحظت عيناي تتلمّسان قرباً من الهدف المنشود، ولم أعبأ بمن وطِأ رجلي، أو نهرني بمَرْفِقِه على وجهي، فعمليّة الشنق بحدّ ذاتها أكبر من أيّ صعوبة أصادفها؛ لأنها لن تتكرّر فيما أظنّ مرّة ثانية أمامي.
بعد لأْيٍ ومشقّة تمكّنت من تلمّس ما كُتِب على صدريهما من سبب الشنق، وخلاصة الأحكام، شيءٌ مخيف ورائع من هول فعلتهما التي ظلّت لغزاً حيّرني لفترة طويلة من الزمن...
كانا شابَّيْن في عمر الورد استهوتهما عادة ركوب الدراجات النارية، وهي هواية لا تَمُتّ إلى البراءة بشيء آنذاك يتجوّلان بين الأحياء كطلقة مسدّس في فراغ ساكن، يضخّون خلفهم غيوماً سوداء تؤذي الإحساس، وتخدش الذوق، وتستأصل المدنيّة من جذورها؛ فيزرعوا الهلع والذعر في نفوس معظم الناس، وينثروا المتعة عند نفر من الصبية، فكثيراً ما كنّا نرى صبيّاً منتخَباً خلف أحدهما ينطلقان به إلى جهة لا نُبَرِّئ أحداً منهم في هذه الرحلة المشبوهة.
وأمر هواية الدراجات النارية آنذاك أمر خطير في الغالب يحتاج إلى مال كثير للإنفاق على مستلزمات هذه الهواية اللعينة، وما يتبعها من شرب وتدخين بكلّ أنواعه، وما خفي كان أعظم، الشيءُ الذي يدفع الهاوي إلى البحث عن مصادر التمويل.
توجّهت أنظار بكّار وصافي إلى منزل خالة بكار، تلك العجوز التي بلغت من العُمُْر عِتِيّا، تسكن وحدها في مبنى قديم متهالك من طابقين لا يضمّ إلا القليل من الجيران كبار السنّ، تقرأ من حجارته أعمار ساكنيه، وتَعُدّ شاغليه من عدد شققه التي لا تصل لأصابع الكفّ الواحدة.
رسم بكّار وصافي خطّتهما على عجل دفعهما إلى عدم حساب النتائج، وإلى دفع الفاتورة غالية جدّاً...زيارةٌ واحدة لبيت خالته، أو اثنتان جعلت بكاراً يعرف أخبار خالته التي تحبّه وترى فيه على الدوام ملامح أختها المتوفّاة...لمسةُ حنان من الخالة، وتقبيلٌ للأيادي من بكار جعلت الخالة تفضي إليه بمكنوناتها، وتكشف له عن أخبارها اليومية بكل صدق وبساطة ظانّةً أنه جاء ليلبيَ لها بعضَ حاجيّاتها، لكنّها لم تدر أن وراء الأَكَمَة ما وراءها، ولم تعرف أنّه يرش لها (الدرة) على لغة (الحميماتية) في حلب، وفعلاً قضى لها بعض الأغراض التي يحتاجها كبار السنّ من أبنائهم، أو أقاربهم المقرّبين، ثمّ شرب قهوته التي شاركها في صنعها في مطبخ البيت، وقرأت له فنجانه الذي أسعده عندما قالت له: إنّ سمكةَ رزق قادمةٌ إليك، وإنّ بنتَ الحلال ستطرق باب قلبك، وغيرُ ذلك مما يُطْرَب له السذَّجُ من الناس، كانت عيناه تمسح كلّ ركن من أركان البيت، بل إنّ نظرة عينيه الثاقبة رأت ما وراء الجدران، ونفذت إلى ما خلف أبواب الخزائن وفحصت ما بداخلها...لِمَ لا وهو يحمل في طيّاته كلَّ نيّة سيّئة، و يُضْمِر في ثنايا سريرته مشاعر ربّما لا يحملها الإنسان لعدوّه، قبّل يديها طالباً الدعاء، وغادرها مساء بعد أن عرف يقيناً أنها قد باعت عَقاراً متواضعاً كان قد خلّفه لها المرحوم لوقت الشدّة والعِوَز.
كان صافي وأمير ـ وهو فتى في الخامسةَ عشرةَ من عمره ـ يقفان في طرف الشارع ينتظران مهندس العمليّة، ومُخْرِجَها الذي قرّر بيع خالته من أجل حفنة من الليرات فهو الذي سيعطي إشارة البدء...نزل بكار من ميدان العمليّات، وخطا خطوات الواثق المتزن المنتشي، وتقوقع الثلاثة في جلسة همس ؛ لتدارسِ الوضع الميداني...فاتُّخِذَ القرارُ:...سنعود الآن فوراً إلى بيت خالتي أنا وصافي وأنت يا أمير تراقب مدخل العمارة وترنّ لنا الجرس الموجود عند باب البناء رنّة مستمرّة طويلة إذا اشتبهت بأحد يدخل المبنى، أو توجّست من أمر خيفة، وأميرٌ أصغر من أن يُعَرَّف بتفصيلات الخطّة، اللهمّ إلاّ أنّهم سيسرقون، وأنّ له من الطيّب نصيباً.
تسلّق الاثنان درج المبنى بلصوصيّة محترفة، كلّ يتلفّت حوله وقد اتّشح كلّ منهما بلفاحة اعتاد أن يضعها حول رقبته حيناً، ويتلثّم بها بحجّة البرد حيناً آخر إذا أراد إخفاء ملامحه...كانت المسافة بينهما كافية؛ لتُمَكِّنَهما من رصد طابقَيْ المبنى بشكل كامل، ولم تُعِقِ العتمةُ داخل المبنى صعودَهما، ذلك لأنّ الخالة أطفأت نور الدرج من داخل بيتها شأنُ كل العمارات القديمة، وقفلت الباب من الداخل، كما هي العادة عند جدّاتنا، بل عندنا نحن كذلك.
قرع بكار جرس الباب مسمعاً خالته صوته؛ لتطمئنّ للطارق،...وببطء متكاسل أُنِيْرَ البيت من الداخل، وتهادى صوت الخالة المتهدّج بحنان: خير يابكار...(خاله نسيت مفاتيحي)، فُتِح الباب ليدخلَ بكار ... وينسلَّ وراءه صافي انسلال سكين ماضية في جسد شاة تُسلخ وهي معلّقة... شعرت الخالة من طريقة دخولهما أنّ في الأمر ما يريب... حاولت رفع صوتها مستغيثة ... لحظات وكانت الخالة قد ذُبِحَتْ ذبح النعاج، لم يتركوا لها مجالاً لكلمة، ولم تنفعها توسلات أو استرحام، ولم تُتَحْ لها صيحة استغاثة، أو همسة نجدة، لم يرحموا صلة رحِم أو نسب، ولم تشفع لها صرخات ثمانية عقود من الزمن، أو رجفات اعتلال أو رعشات مرض، كلّ شيء فيها يحاول أن يستغيث، ولا حياة لمن تنادي، فقد وضعوا كواتم الصوت على سكاكينهم، وعوادم الرحمة في آذانهم.
دقائق وبكار وصافي يقفزان فوق درج المبنى قفزَ من يمشي حافياً على جمر متوقّد حاشا سحرةَ الهند والشرق، يتّكئان على " دربزونه " الحديدي المرتجف من فعلتهما، كانا يحملان حقيبة سفر صغيرة فيها الغنيمة والسعادة والهناء، حقيبة ستنتشلهما من العوز والحاجة التي يتصورانها،، راحا يحلمان بالتوبة إلى الله إذا لم يُكْشف أمرهما شأنُهما شأنُ كلّ مجرم، وبالزواج وتأسيس أسرة شأنُ كلّ شابّ، ودكانٍ لتأجير الدراجات النارية والهوائية شأنُ من يبحث عن مُتعة رخيصة.
اتّجه الثلاثة إلى بيت متواضع استأجره بكار وصافي منذ مدّة يختلون به لقضاء أوقات لهوهم ومتعتهم، ومشروبهم، ولقيمات يقيمون بها أصلابَهم، كانت نشوة النصر فوق كلّ نشوة، نصر أنساهم مرارة فعلتهم، في طريقهم اشتروا دجاجتين مشويّتين وهي أسرع وجبة يمكن الحصول عليها، و " نصّية من حليب السباع " كما يسمّيه الحلبيّون وقليل من القضامة وفستق العبيد... دخلوا البيت، وقبل أن يأكلوا قرّروا اقتسام الغنائم، وضعوا الحقيبة الجلدية المقفلة بينهم لفتحها، التفوا حولها التفاف الضباع على فريستهم، كان وزن الحقيبة موحياً بأنّ فيها مبلغاً كبيراً من المال، وثقلُها بالنسبة إليهم سعادة غامرة، وثروة عامرة، كانت نشوتُهم وضحكاتُهم لا تفارقهم، وهي فوق كلّ اعتبار... استعصت الحقيبة على فاتحيها، ولعلّ التسرّعَ والارتباك هما السببُ، لكنّ آخرَ الدواءِ الكيُّ... ضربة واحدة من " شبريّة " صافي في خاصرة الحقيبة أخرجت أمعاءها وبسطت محتواياتها أمامهم على الفور، نبشوا المحتويات، ومسحوا الحقيبة من داخلها تبادلوا نظرات اللؤم والخيبة والوعيد فيما بينهم واحتبس الدم في عروقهم ، وتعثرت الكلمات على شفاههم وقرأ بكار ملامح صافي السيئة في تلك اللحظة العصيبة، فسوء التخطيط، وعدم الدقّة أوصلانا إلى هذه الطريق المسدودة لكنّ بكاراً وبعصبية القاتل الذي لا مانع لديه من القتل ثانية وثالثة بادلهما النظرات من العيار نفسه مستمرّاً في نبش أشلاء الحقيبة تفقّد جيوبها الداخلية وهزّ الأغراض واحداً تلوَ الآخر وأعمل يديه في كلّ كمّ وجيب وثنية وتجويف ولم يعثر إلاّ على خيبة الأمل وأغراض خاصّة، ومعطف نسائي، وحذاء، وثوب لتنام فيه عندما ستزور أخاها، وحقيبة يد نسائية صغيرة فيها بعضٌ من النقود المعدنية وورقةٌ بنكية رسميّة مكتوب عليها ((إيصال بإيداع مبلغ في المصرف التجاري السوري))
15/11/2007
قصة قصيرة: إلى من يهمه أمري
إلى من يهمّه أمري
كانون الثاني 2008 د/ أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عرفتها من زمن ليس بقريب، جمعتني بها الصدفة ، بل قل النسبَ والقربى؛ لأنني مذ عرفتها شعرت بأنها أبي وأمّي، وكلُّ كياني، صحيح أنّني بحثت عنها كثيراً؛ لأخطب ودّها الذي لم يكن مستعصياً على أحد من شبان الحيّ من أصدقائي، فكلّهم يعرفونها ولها محبّة في نفوسهم، أمّا أنا فقد كانت بالنسبة إليّ شيئاً آخر، جعلتها حبيبتي، ووطني، وإلهي، وعشقي، يعرفها كلّ أخداني، لكنّهم لا يحبونها كما أحبّها، ولا يشعرون بمُتعة اللقاء معها، وليس من رأى كمَنْ سمع.
جريت وراءها من مكان إلى مكان ، و تعرّفت والدها وإخوتها، وكثيراً من عشّاقها وأدركت أنّ عشقي لها أكبرُ من كلّ عشق، وأسمى من كلّ حبّ، نفّذتُ أوامرَ كلّ أهلها وأقاربها حتّى الصغارَ منهم؛ لأنني رأيتُ في عيونهم ملمحاً من ملامح وجهها، وفي كلّ كلمة من كلماتهم أثراً من رجْعها ونبرةً من شدْوها حتى غدوت متقمصاً طريقة حديثها، ولكْنَتِها ومشيتها وضحكتها.
مرّت السنونَ إلى أن حدّثتها وجهاً إلى وجه، كان ذلك في أحد الأحياء الشعبية، دهشت للقائها، وازددت هياماً بها؛ لأنّني شعرت أنّها هامت بي كذلك: كانت سمراءَ تحاكي طهرَ الأرض نقاءً وصفاءً، أصيلةً في كلّ ملمح من ملامحها، حتّى جسدُها لو نظرت إليه لرأيت خارطة التاريخ بكلّ ما فيه من كرمِ المَحْتِد، والمنبت والقسمات، أمّا حديثها فغناء وطرب، وأوتار عود وقيثارة جوقة موسيقيّة في ليلة أندلسيّة، نبرتُها موسيقى عريقةٌ ممزوجة بعبق الماضي وحداثةِ الحاضر، إن مشت فالدَّعة والخُيَلاء مِشْيتُها، وإن أسرعت فإنها تجبّ بنات جنسها جميعاً حتّى أضحت صبايا الحيّ كلُّهنّ يَغْبِطْنَها حيناً ويحسدنها في أحايينَ كثيرةٍ، لكنّه لا فائدة من هذا الحبّ والهيام إذا لم يوافقْ أبوها على حبّنا ويباركْه؛ لآخذَها وأسجلَها على قيودي الرسميّة، وأمنحَها اسمي تسجلُه على قيودها كذلك، نقلت لها مشاعري في مناسبات كثيرة، وعبّرت لها عن حبّي في تلك المناسبات التي تهتمّ بها، وكذلك عبّرَتْ لي بدورها عن حبّها كثيراً ومنحتْني فرصاً كثيرة للتواصل، أدخلتني بيتها مراراً وتكراراً فجلست في كلّ زاوية من زواياه، واضطجعت وتربّعت على أرائكه كيفما يحلو لي وهي بجانبي تسامرني سواء أكان ذلك بحضور أهلها أم لم يكن، حتّى أبوها عرفته وصافحته، وأدركت أنّه يحبني كذلك، لكنني لم تتملكْْْني الجرأةُ آنذاك؛ لأطلب يدها، إخوتُها حاولوا مساعدتي، ووعدوني خيراً بعد أن يجتمع مجلس العائلة؛ ليُقِرّوا بحقّي في أن أعيش مع حبيبتي، وتَقَرَّ عيني بها ٌقبل أن أنتقل إلى جوار الخالق.
قلت لكم إنني لقيتها وأمسكت يديها في أكثرَ من لقاء، أدخلتها بيتي خلسة وعلناً، ورآني كلّ البشر وأنا أعلّقُ صورتَها في صدر بيتي بعد أن حفرتُه في قلبي، فاحترم الخلق مشاعري تجاهَها، حتّى في سفري وغربتي كانت معي على الدوام صعدت معها برج إيفيل وركبنا الجندول سويّة في فينيسيا وعبرنا نفقَ المانش من تحت مياهه وأيدينا تتشابك كأننا جسد توءم سيامي يأبى انفصالاً.
تجولت في أنحاءِ عينيها من شاطئ إلى شاطئ، وسبحت في بحورهما، ورأيت نفسي أجيد السباحة، ولم يعقْني تقدّمُ العمر من أن أشعرَ بنشوة لقائها، نثرت مشاعري على شعرها وداعبت أصابعي خصلاته أيّما مداعبةٍ، كان ليله جميلاً عبثياً،.. إذا داعبتْه النسمات تمايل تمايل طَرِبٍ أشجته وصْلاتٌ من القدود والموشحات، هي ملكة من ملكات الدنيا بكلّ المقاييس وجميلة من جميلاتها، وهأنذا أعيش بين أحضانها أتمتع بوصالها ساعة أشاء، لكنني والله لا أحبّ هذه العلاقة المحرّمة، بل أريد أن أقترن بها لتكون مسجلة في جواز سفري.
لم يسبق لعاشق أن وصف دقائق علاقته بمعشوقته، لكنني أكاد أُجَنُّ من شدّة حبي لها، وما وصفي لهذه العلاقة إلا ضربٌ من التنفيس قبل أن أصابَ بمسّ أو تصعدَ روحي إلى خالقها.
لقد عشقتها وأحببتها، وتعلّقتها، وهمتُ بها، واسألوا ابنَ سيدةَ والثعالبيَّ عن كلّ درجات الحبّ التي جمعتني بها... لمّا أدخلتها حجرة نومي رأيت جبينَها قلعةً شامخةً كُلّلَتْ هامتها بأكاليل الغار، عالياً مرفوعاً على الدوام ، مسحت بيدي شعرات غرّتها ورفعتها إلى أعلى رأسها للخلف؛ لأرى وجهَها ـ كما خلقه ربّ العالمين ـ لؤلؤةً سكنت في محارتها منذ الأزل، وضعت خدّي عليه لأتحسسَ حرارته، وأشعرَ بدفئه وهي تبادلني اللمسةَ باللمسةِ، والهمسةَ بالهمسةِ، أردّ البصر كرّتين إلى عينيها في كلّ التفاتة؛ لأن طرفة عين واحدة كفيلة بأن أشدّ الرحال إليهما فهما القصد والسبيل، كان فيهما سحرُ الشرق وجمالُ الغرب، وأهمّ شيء أنني رأيتُ نفسي فيهما. أمّا ثغرُها فقد جُمِعَتْ فيه مفاتنُ الكون ودُرَرُه، وكثيراً ما رشفتُ من رضابه وتلذذتُ رحيقه، ولو أدرك النحل لذته لعاف زهور العالم وورد البسيطة واستقرَّ على ثغرها؛ ليمزجَ صانعاً إكسيرَ الحياة يغذّي به البشريةَ كي يُكتبَ لها الخلودُ. أمّا صدرُها فروضةٌ من رياض جسدها الكلّيّ، غنّاءُ واسعةٌ أخذتْ من جسمها الشيءَ الكثيرَ يفوحُ منه العطر من كلّ جانب، جثوتُ أمامها وركعت في محرابها استنشقت أريجها حتّى الثمالة..نعم في هواها أسكرتْني وأنا راضٍ بسُكْرٍ كهذا لا يحرّمه دينٌ ولا تَنْهى عنه شرائعُ كلِّ البشر، قلّبت كلّ سنن الكون، من كونفوشيوس إلى زرداشت وكُتُبَ المفسرين من ابن مسعود إلى الآلوسي فلم أر من ينهاني عنها، فاستمرأت هذا العشق وازددت منه غَبْجاً.
المشكلة التي لم أجد لها تفسيراً أنني كبرت، بل كبرت كثيراً، وحبّي لها طال زمنه أكثر من ستة عقود، وعبثتْ صروفُ الدهر بملامحي الشيءَ الكثيرَ، أمّا هي فلم تتبدّلْ قطّ، ولم تظهرْ عليها ملامح الكِبَر وعوادي السنين، ولا تتفاجأوا إذا قلت لكم إنّها تزداد صباً كلّ يوم، ويتجدّد جمالها كلّ ساعة، ليس بشهادتي أنا؛ لأنّ شهادة المحبّ مجروحةٌ، بل بشهادة كلّ من يعرفُها، أو يلمحُها، أو يرى صورتَها، وهم كثرٌ.
أمّا أنا فما زلت صامداً في حبّها لا أتنازل عنه لو وضعوا الشمس في يميني، أحلم في أنْ أخطبَ وِدّها بعد أنْ استنزفتُ من العمر معظمَه، أحلُمُ باليوم الذي أملكُها؛ لأكونَ معها في علاقةٍ مشروعةٍ غيرِ محرّمةٍ، أحضنُها فيما تبقّى لي من عمر، ولن أندم آنذاك إذا متّ عند أدراجِها.
15/1/2008
كانون الثاني 2008 د/ أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عرفتها من زمن ليس بقريب، جمعتني بها الصدفة ، بل قل النسبَ والقربى؛ لأنني مذ عرفتها شعرت بأنها أبي وأمّي، وكلُّ كياني، صحيح أنّني بحثت عنها كثيراً؛ لأخطب ودّها الذي لم يكن مستعصياً على أحد من شبان الحيّ من أصدقائي، فكلّهم يعرفونها ولها محبّة في نفوسهم، أمّا أنا فقد كانت بالنسبة إليّ شيئاً آخر، جعلتها حبيبتي، ووطني، وإلهي، وعشقي، يعرفها كلّ أخداني، لكنّهم لا يحبونها كما أحبّها، ولا يشعرون بمُتعة اللقاء معها، وليس من رأى كمَنْ سمع.
جريت وراءها من مكان إلى مكان ، و تعرّفت والدها وإخوتها، وكثيراً من عشّاقها وأدركت أنّ عشقي لها أكبرُ من كلّ عشق، وأسمى من كلّ حبّ، نفّذتُ أوامرَ كلّ أهلها وأقاربها حتّى الصغارَ منهم؛ لأنني رأيتُ في عيونهم ملمحاً من ملامح وجهها، وفي كلّ كلمة من كلماتهم أثراً من رجْعها ونبرةً من شدْوها حتى غدوت متقمصاً طريقة حديثها، ولكْنَتِها ومشيتها وضحكتها.
مرّت السنونَ إلى أن حدّثتها وجهاً إلى وجه، كان ذلك في أحد الأحياء الشعبية، دهشت للقائها، وازددت هياماً بها؛ لأنّني شعرت أنّها هامت بي كذلك: كانت سمراءَ تحاكي طهرَ الأرض نقاءً وصفاءً، أصيلةً في كلّ ملمح من ملامحها، حتّى جسدُها لو نظرت إليه لرأيت خارطة التاريخ بكلّ ما فيه من كرمِ المَحْتِد، والمنبت والقسمات، أمّا حديثها فغناء وطرب، وأوتار عود وقيثارة جوقة موسيقيّة في ليلة أندلسيّة، نبرتُها موسيقى عريقةٌ ممزوجة بعبق الماضي وحداثةِ الحاضر، إن مشت فالدَّعة والخُيَلاء مِشْيتُها، وإن أسرعت فإنها تجبّ بنات جنسها جميعاً حتّى أضحت صبايا الحيّ كلُّهنّ يَغْبِطْنَها حيناً ويحسدنها في أحايينَ كثيرةٍ، لكنّه لا فائدة من هذا الحبّ والهيام إذا لم يوافقْ أبوها على حبّنا ويباركْه؛ لآخذَها وأسجلَها على قيودي الرسميّة، وأمنحَها اسمي تسجلُه على قيودها كذلك، نقلت لها مشاعري في مناسبات كثيرة، وعبّرت لها عن حبّي في تلك المناسبات التي تهتمّ بها، وكذلك عبّرَتْ لي بدورها عن حبّها كثيراً ومنحتْني فرصاً كثيرة للتواصل، أدخلتني بيتها مراراً وتكراراً فجلست في كلّ زاوية من زواياه، واضطجعت وتربّعت على أرائكه كيفما يحلو لي وهي بجانبي تسامرني سواء أكان ذلك بحضور أهلها أم لم يكن، حتّى أبوها عرفته وصافحته، وأدركت أنّه يحبني كذلك، لكنني لم تتملكْْْني الجرأةُ آنذاك؛ لأطلب يدها، إخوتُها حاولوا مساعدتي، ووعدوني خيراً بعد أن يجتمع مجلس العائلة؛ ليُقِرّوا بحقّي في أن أعيش مع حبيبتي، وتَقَرَّ عيني بها ٌقبل أن أنتقل إلى جوار الخالق.
قلت لكم إنني لقيتها وأمسكت يديها في أكثرَ من لقاء، أدخلتها بيتي خلسة وعلناً، ورآني كلّ البشر وأنا أعلّقُ صورتَها في صدر بيتي بعد أن حفرتُه في قلبي، فاحترم الخلق مشاعري تجاهَها، حتّى في سفري وغربتي كانت معي على الدوام صعدت معها برج إيفيل وركبنا الجندول سويّة في فينيسيا وعبرنا نفقَ المانش من تحت مياهه وأيدينا تتشابك كأننا جسد توءم سيامي يأبى انفصالاً.
تجولت في أنحاءِ عينيها من شاطئ إلى شاطئ، وسبحت في بحورهما، ورأيت نفسي أجيد السباحة، ولم يعقْني تقدّمُ العمر من أن أشعرَ بنشوة لقائها، نثرت مشاعري على شعرها وداعبت أصابعي خصلاته أيّما مداعبةٍ، كان ليله جميلاً عبثياً،.. إذا داعبتْه النسمات تمايل تمايل طَرِبٍ أشجته وصْلاتٌ من القدود والموشحات، هي ملكة من ملكات الدنيا بكلّ المقاييس وجميلة من جميلاتها، وهأنذا أعيش بين أحضانها أتمتع بوصالها ساعة أشاء، لكنني والله لا أحبّ هذه العلاقة المحرّمة، بل أريد أن أقترن بها لتكون مسجلة في جواز سفري.
لم يسبق لعاشق أن وصف دقائق علاقته بمعشوقته، لكنني أكاد أُجَنُّ من شدّة حبي لها، وما وصفي لهذه العلاقة إلا ضربٌ من التنفيس قبل أن أصابَ بمسّ أو تصعدَ روحي إلى خالقها.
لقد عشقتها وأحببتها، وتعلّقتها، وهمتُ بها، واسألوا ابنَ سيدةَ والثعالبيَّ عن كلّ درجات الحبّ التي جمعتني بها... لمّا أدخلتها حجرة نومي رأيت جبينَها قلعةً شامخةً كُلّلَتْ هامتها بأكاليل الغار، عالياً مرفوعاً على الدوام ، مسحت بيدي شعرات غرّتها ورفعتها إلى أعلى رأسها للخلف؛ لأرى وجهَها ـ كما خلقه ربّ العالمين ـ لؤلؤةً سكنت في محارتها منذ الأزل، وضعت خدّي عليه لأتحسسَ حرارته، وأشعرَ بدفئه وهي تبادلني اللمسةَ باللمسةِ، والهمسةَ بالهمسةِ، أردّ البصر كرّتين إلى عينيها في كلّ التفاتة؛ لأن طرفة عين واحدة كفيلة بأن أشدّ الرحال إليهما فهما القصد والسبيل، كان فيهما سحرُ الشرق وجمالُ الغرب، وأهمّ شيء أنني رأيتُ نفسي فيهما. أمّا ثغرُها فقد جُمِعَتْ فيه مفاتنُ الكون ودُرَرُه، وكثيراً ما رشفتُ من رضابه وتلذذتُ رحيقه، ولو أدرك النحل لذته لعاف زهور العالم وورد البسيطة واستقرَّ على ثغرها؛ ليمزجَ صانعاً إكسيرَ الحياة يغذّي به البشريةَ كي يُكتبَ لها الخلودُ. أمّا صدرُها فروضةٌ من رياض جسدها الكلّيّ، غنّاءُ واسعةٌ أخذتْ من جسمها الشيءَ الكثيرَ يفوحُ منه العطر من كلّ جانب، جثوتُ أمامها وركعت في محرابها استنشقت أريجها حتّى الثمالة..نعم في هواها أسكرتْني وأنا راضٍ بسُكْرٍ كهذا لا يحرّمه دينٌ ولا تَنْهى عنه شرائعُ كلِّ البشر، قلّبت كلّ سنن الكون، من كونفوشيوس إلى زرداشت وكُتُبَ المفسرين من ابن مسعود إلى الآلوسي فلم أر من ينهاني عنها، فاستمرأت هذا العشق وازددت منه غَبْجاً.
المشكلة التي لم أجد لها تفسيراً أنني كبرت، بل كبرت كثيراً، وحبّي لها طال زمنه أكثر من ستة عقود، وعبثتْ صروفُ الدهر بملامحي الشيءَ الكثيرَ، أمّا هي فلم تتبدّلْ قطّ، ولم تظهرْ عليها ملامح الكِبَر وعوادي السنين، ولا تتفاجأوا إذا قلت لكم إنّها تزداد صباً كلّ يوم، ويتجدّد جمالها كلّ ساعة، ليس بشهادتي أنا؛ لأنّ شهادة المحبّ مجروحةٌ، بل بشهادة كلّ من يعرفُها، أو يلمحُها، أو يرى صورتَها، وهم كثرٌ.
أمّا أنا فما زلت صامداً في حبّها لا أتنازل عنه لو وضعوا الشمس في يميني، أحلم في أنْ أخطبَ وِدّها بعد أنْ استنزفتُ من العمر معظمَه، أحلُمُ باليوم الذي أملكُها؛ لأكونَ معها في علاقةٍ مشروعةٍ غيرِ محرّمةٍ، أحضنُها فيما تبقّى لي من عمر، ولن أندم آنذاك إذا متّ عند أدراجِها.
15/1/2008
قصة قصيرة: الأصيص
الأصيص
العين 18/11/2008 د/أمان الدين محمد حتحات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في ليلة شتويّةِ القسمات أربعينيّة الملامح التفّ الأولاد والأحفاد حول أبي فهد الذي جلس في زاوية الغرفة المتواضعة قبالة مدفأة تلوّن لهيبها بألوان قوسُ قُزَح، وهو ملتفّ بفروة تحضُنه مع بعض أحفاده الذين انسلّوا إلى داخلها كما تنسلّ صغار القطط حول أمّها تتسقّّط الدفء وتبحث عن الحنان.
وصل أبو فهد إلى سن التقاعد منذ فترة، فقد فُطِم عن العمل لكنّه ما زال يجترّ أمجاده على الدوام ويستعرض صولاته وجولاته حين قضى شطراً كبيراً من سنيّ عمر عمله على الحدود السورية التركيّة، يعمل بإخلاص وتفان، ولا يمدّ يده لغير الحقّ لا يغريه مال ولا تضعفه قرابة، ولا يجفف عرقَ تعبه إلا الراتب الذي يتقاضاه نهاية كلّ شهر.
رفع أبو فهد عقيرته[1] وهو يرمي لمن حوله بخلاصة تجربته الطويلة، الجميع ينصِت لهيبته، وجهارة صوته، وإيقاع كلماته التي تنقلنا إلى جوّ قصصه؛ لنعيشها لحظة بلحظة، وكأنّها صور تتمطّى وتتلاحق؛ لتنطق أمامنا.
من بين تجاعيد هضبة الأناضول ترنّحت حافلة الركاب تتهادى مثقلة بركابها الأربعين، وحمولتها التي تثقل كاهلها، الجميع نيام من وعثاء السفر، الأنوار مطفأة داخل الحافلة تدعو الجميع للنوم عدا السائق ومعاونه اللذين يتبادلان الأحاديث المتقطعة حين تتوقف أم كلثوم عن الشدو، ويبدأ جمهورها بقول الآه تِلوَ الآه.
كان الوقت يؤذن بيوم جديد تداعب فيه الشمس خجلى زجاج نوافذ الحافلة؛ لتسرق قبلات تطبعها على وجنات من بقي نائماً من الركاب، الجميع تململوا مستيقظين إلاّ الصغارَ الذين ارتموا في أحضان أهليهم يصارعون النوم فيصرعونه.
وقفت الحافلة خلف رتل السيارات الكبيرة تنتظر دورها الذي يحتاج زمناً ليس بقليل، لا سيّما أننا على أبواب إجازة الأعياد حيث يكثر المسافرون على جانبَيْ الحدود، وهم محمّلون بالبضائع والهدايا المتنوّعة، نزَل بعض الركاب من الحافلة يقضون حوائج كثيرة من طعام وشراب وغير ذلك من الأمور، والسائق ومعاونه لا يبرَحان الحافلة على الإطلاق فهما المسؤولان عن الحافلة وركابها وما يحملونه من أغراض متنوّعة.
أفرغت الحافلةُ ما في جوفها من الأغراض، صعدتُ مع زملائي نؤدي واجبنا في التفتيش والتدقيق متسلحين بالابتسامة حيناً والحزم أحياناً، ترافقنا الخبرة وتصحبنا الفِراسة في كلّ حال، نزَل معظم الركاب، وتحلّقوا حول الأغراض التي قلّما نفتحُها أو نعبثُ بمحتواها، لأنّ الكلاب المدرّبة كفيلة باختصار الزمن والنباح إذا استشعرت ما دُرّبت عليه من ممنوعات ولعلّ الحشيش أبرزُها.
كنت مغرماً على الدوام بتأمّل وجوه الناس وقت التفتيش؛ لأنّ ملامحهم تنبئ عن سريرتهم في غالب الأحيان، حاشا المحترفين منهم الذين عركتهم السنون فألفوا التضليل والخداع... وأنا أمارس هواية تصفّح ملامح المسافرين همهم الكلب بحركات تشير إلى أنّ بوصلته وجدت وجهتها، وعلينا أن نمكّنه بمزيد من الوقت؛ ليدرك الهدف، ويصوّبَ نحو الدريئة، إنّها أصيص فيه شجرة قَزَمَة نادرة تدخل في عداد الهدايا القيّمة، همهمات متتالية أعقبها نباح متصاعد عرفنا ـ نحن أصحابُ الخبرة ـ فكَّ رموزه وترجمة كلماته.
فإذا كان المهرّب متمكّناً فنحن أيضاً نملك من وسائل الدُّربة والممارسة ما يفتح بين الطرفين منافسة حامية الوطيس نخسر فيها حيناً، ونربح أحياناً. والتصرّف البدهيّ أن نتجه بالحديث نحو السائق الذي نعرفه، فهو ابن الخطّ ومتعاون، وذكيّ.
· لمن هذه الحقيبة السوداء الكبيرة يا أبا محمد؟
· يا شباب، من صاحب الحقيبة تلك؟
· أجاب أحدهم إنها لي، هل أفتحها؟
· لا، لا داعي إنه سؤال اعتياديّ.
· ولمن كيس البحّارة هذا؟
· إنه لي، هل أفتحه؟
· لا، لا داعي إنه سؤال اعتياديّ.
· ولمن أصيص الشجرة النادرة هذا؟ ولم يردّ أحد من الحاضرين.
· نادى أبو محمد، يا شباب من صاحب (شقف الزرع) كرّرها ثانية وثالثة والصوت يتصاعد، قفز المعاون إلى الحافلة؛ لينادي بعض النائمين.
· قلت له: يا الله يا شباب لن نؤخركم أكثرَ من ذلك.
شكرني السائق بلفافة تبغ اعتذرت لعدم أخذها، ولحقني إلى الغرفة لتوقيع الأوراق ودار بيننا حديث قصير جداً وانصرف.
دقائق تعاون فيها الجميع على إعادة الأغراض إلى الحافلة، وانطلقوا من جديد تغمرهم السعادة بالسفرة الميسّرة والحمد لله، غابت الحافلة بين أحضان تلال لفّت ساعديها حول حبيب جاء بعد طول سفر، وفي أحد المنعطفات حرنت الحافلة، وأبت أن تنقاد ذلولة لسائقها، نزَل السائق والمعاون، حاولا الإصلاح أكثر من مرّة دون جدوى، نزَل بعض المتطوّعين للمساعدة دون جدوى، أخرج السائق هاتفه متّصلاً بالشركة أن أرسلوا لنا فنّياً أو حافلة على وجه السرعة بما يكفل عدم تأخر الركاب، فجاءه الجواب بالإيجاب.
ساعةٌ من الزمن مضت توزّع فيها الركاب قريبين من الحافلة، صوت الحافلة الجديدة القادمة من بعيد يطرب الجميع وهي تتسلّق نحور التلال، لتكون قلادة تزيّن الصدر، ضحكت ملامح الجميع، واتّسعت ابتساماتهم وهم يتعاونون على إنزال الأغراض، وتحضيرها حين توقفت الحافلة المسعفة بعد مسافة من مركبتهم المصابة، تهامس أبو محمد مع السائق الجديد، ومعاونه، ثمّ جاء مهرولاً نحو الركاب وهو يصرخ حاثّاً الركاب على السرعة:
· يا الله يا جماعة، بسرعة لقد تأخّرنا، كلّ واحد ينقل أغراضَه إلى الحافلة التي هناك.
جرّ كبار السنّ حقائبهم الكبيرة، وحمل الآخرون أغراضهم وهداياهم، وانبرى من بين الصفوف شابّ ممشوق القامة حسن الهندام، واثق الخطوة، علّق كيس البحارة المكتنز على كتفه، وحمل أصيص الشجرة القَزَمَة، واتّجه نحو الحافلة الجديدة، فانقضّ عليه رجلا الأمن سائقُ الحافلة الجديدة، ومعاونه.
[1] من معانيها صوت القارئ والباكي والمغنّي
العين 18/11/2008 د/أمان الدين محمد حتحات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في ليلة شتويّةِ القسمات أربعينيّة الملامح التفّ الأولاد والأحفاد حول أبي فهد الذي جلس في زاوية الغرفة المتواضعة قبالة مدفأة تلوّن لهيبها بألوان قوسُ قُزَح، وهو ملتفّ بفروة تحضُنه مع بعض أحفاده الذين انسلّوا إلى داخلها كما تنسلّ صغار القطط حول أمّها تتسقّّط الدفء وتبحث عن الحنان.
وصل أبو فهد إلى سن التقاعد منذ فترة، فقد فُطِم عن العمل لكنّه ما زال يجترّ أمجاده على الدوام ويستعرض صولاته وجولاته حين قضى شطراً كبيراً من سنيّ عمر عمله على الحدود السورية التركيّة، يعمل بإخلاص وتفان، ولا يمدّ يده لغير الحقّ لا يغريه مال ولا تضعفه قرابة، ولا يجفف عرقَ تعبه إلا الراتب الذي يتقاضاه نهاية كلّ شهر.
رفع أبو فهد عقيرته[1] وهو يرمي لمن حوله بخلاصة تجربته الطويلة، الجميع ينصِت لهيبته، وجهارة صوته، وإيقاع كلماته التي تنقلنا إلى جوّ قصصه؛ لنعيشها لحظة بلحظة، وكأنّها صور تتمطّى وتتلاحق؛ لتنطق أمامنا.
من بين تجاعيد هضبة الأناضول ترنّحت حافلة الركاب تتهادى مثقلة بركابها الأربعين، وحمولتها التي تثقل كاهلها، الجميع نيام من وعثاء السفر، الأنوار مطفأة داخل الحافلة تدعو الجميع للنوم عدا السائق ومعاونه اللذين يتبادلان الأحاديث المتقطعة حين تتوقف أم كلثوم عن الشدو، ويبدأ جمهورها بقول الآه تِلوَ الآه.
كان الوقت يؤذن بيوم جديد تداعب فيه الشمس خجلى زجاج نوافذ الحافلة؛ لتسرق قبلات تطبعها على وجنات من بقي نائماً من الركاب، الجميع تململوا مستيقظين إلاّ الصغارَ الذين ارتموا في أحضان أهليهم يصارعون النوم فيصرعونه.
وقفت الحافلة خلف رتل السيارات الكبيرة تنتظر دورها الذي يحتاج زمناً ليس بقليل، لا سيّما أننا على أبواب إجازة الأعياد حيث يكثر المسافرون على جانبَيْ الحدود، وهم محمّلون بالبضائع والهدايا المتنوّعة، نزَل بعض الركاب من الحافلة يقضون حوائج كثيرة من طعام وشراب وغير ذلك من الأمور، والسائق ومعاونه لا يبرَحان الحافلة على الإطلاق فهما المسؤولان عن الحافلة وركابها وما يحملونه من أغراض متنوّعة.
أفرغت الحافلةُ ما في جوفها من الأغراض، صعدتُ مع زملائي نؤدي واجبنا في التفتيش والتدقيق متسلحين بالابتسامة حيناً والحزم أحياناً، ترافقنا الخبرة وتصحبنا الفِراسة في كلّ حال، نزَل معظم الركاب، وتحلّقوا حول الأغراض التي قلّما نفتحُها أو نعبثُ بمحتواها، لأنّ الكلاب المدرّبة كفيلة باختصار الزمن والنباح إذا استشعرت ما دُرّبت عليه من ممنوعات ولعلّ الحشيش أبرزُها.
كنت مغرماً على الدوام بتأمّل وجوه الناس وقت التفتيش؛ لأنّ ملامحهم تنبئ عن سريرتهم في غالب الأحيان، حاشا المحترفين منهم الذين عركتهم السنون فألفوا التضليل والخداع... وأنا أمارس هواية تصفّح ملامح المسافرين همهم الكلب بحركات تشير إلى أنّ بوصلته وجدت وجهتها، وعلينا أن نمكّنه بمزيد من الوقت؛ ليدرك الهدف، ويصوّبَ نحو الدريئة، إنّها أصيص فيه شجرة قَزَمَة نادرة تدخل في عداد الهدايا القيّمة، همهمات متتالية أعقبها نباح متصاعد عرفنا ـ نحن أصحابُ الخبرة ـ فكَّ رموزه وترجمة كلماته.
فإذا كان المهرّب متمكّناً فنحن أيضاً نملك من وسائل الدُّربة والممارسة ما يفتح بين الطرفين منافسة حامية الوطيس نخسر فيها حيناً، ونربح أحياناً. والتصرّف البدهيّ أن نتجه بالحديث نحو السائق الذي نعرفه، فهو ابن الخطّ ومتعاون، وذكيّ.
· لمن هذه الحقيبة السوداء الكبيرة يا أبا محمد؟
· يا شباب، من صاحب الحقيبة تلك؟
· أجاب أحدهم إنها لي، هل أفتحها؟
· لا، لا داعي إنه سؤال اعتياديّ.
· ولمن كيس البحّارة هذا؟
· إنه لي، هل أفتحه؟
· لا، لا داعي إنه سؤال اعتياديّ.
· ولمن أصيص الشجرة النادرة هذا؟ ولم يردّ أحد من الحاضرين.
· نادى أبو محمد، يا شباب من صاحب (شقف الزرع) كرّرها ثانية وثالثة والصوت يتصاعد، قفز المعاون إلى الحافلة؛ لينادي بعض النائمين.
· قلت له: يا الله يا شباب لن نؤخركم أكثرَ من ذلك.
شكرني السائق بلفافة تبغ اعتذرت لعدم أخذها، ولحقني إلى الغرفة لتوقيع الأوراق ودار بيننا حديث قصير جداً وانصرف.
دقائق تعاون فيها الجميع على إعادة الأغراض إلى الحافلة، وانطلقوا من جديد تغمرهم السعادة بالسفرة الميسّرة والحمد لله، غابت الحافلة بين أحضان تلال لفّت ساعديها حول حبيب جاء بعد طول سفر، وفي أحد المنعطفات حرنت الحافلة، وأبت أن تنقاد ذلولة لسائقها، نزَل السائق والمعاون، حاولا الإصلاح أكثر من مرّة دون جدوى، نزَل بعض المتطوّعين للمساعدة دون جدوى، أخرج السائق هاتفه متّصلاً بالشركة أن أرسلوا لنا فنّياً أو حافلة على وجه السرعة بما يكفل عدم تأخر الركاب، فجاءه الجواب بالإيجاب.
ساعةٌ من الزمن مضت توزّع فيها الركاب قريبين من الحافلة، صوت الحافلة الجديدة القادمة من بعيد يطرب الجميع وهي تتسلّق نحور التلال، لتكون قلادة تزيّن الصدر، ضحكت ملامح الجميع، واتّسعت ابتساماتهم وهم يتعاونون على إنزال الأغراض، وتحضيرها حين توقفت الحافلة المسعفة بعد مسافة من مركبتهم المصابة، تهامس أبو محمد مع السائق الجديد، ومعاونه، ثمّ جاء مهرولاً نحو الركاب وهو يصرخ حاثّاً الركاب على السرعة:
· يا الله يا جماعة، بسرعة لقد تأخّرنا، كلّ واحد ينقل أغراضَه إلى الحافلة التي هناك.
جرّ كبار السنّ حقائبهم الكبيرة، وحمل الآخرون أغراضهم وهداياهم، وانبرى من بين الصفوف شابّ ممشوق القامة حسن الهندام، واثق الخطوة، علّق كيس البحارة المكتنز على كتفه، وحمل أصيص الشجرة القَزَمَة، واتّجه نحو الحافلة الجديدة، فانقضّ عليه رجلا الأمن سائقُ الحافلة الجديدة، ومعاونه.
[1] من معانيها صوت القارئ والباكي والمغنّي
الاشتراك في:
التعليقات (Atom)