الاثنين، 7 يناير 2013

الأفلاج تاريخيا

الأفلاج في مدينة العين


أعدّه:  الدكتور/ أمان الدين محمد حتحات

جامعة الإمارات العربية المتحدة

كانون الثاني/ يناير2004



المحور الأول:الأفلاج؛تاريخها وأنواعها



أولاً: تاريخ الأفلاج

1 ـ تعريف الفلج

بدايات الفلج عند الإنسان :

الفلج الذي نعنى به في دراستنا هوعبارة عن مجرى ماء صغير محفور بيد الإنسان وليس طبيعياً .

الفَلَجَ- لغة – نهر صغير، والجمع: أفلاج. والجمع : أفلاج. والفلج أيضاً: تباعد ما بين الأسنان، والفَلَج: الساقية ، التي تجري.



الأفلاج مفردها ((فلج)) ولها عدة معان، فمن الناحية اللغوية تعني كلمة فلج: شق الأرض، والجدول المائي القصير، والقناة التي تروي المياه.

وكذلك تعني الظفر والفوز إذ يقال: فلج على خصمه من باب نصر، وأفلج الله عليه،

وهكذا نكتشف : أن جمع المعاني تتفرع من معنى واحد هو القسمة والتنصيف للأرض والمياه والمجاري.

وللفلج أسماء كثيرة ففي إيران يسمى القناة وفي العراق يسمى الكهريز، بينما في الإمارات وعمان يسمى الفلج.

والفلج يعني بئراً رئيسياً حفر في المناطق الجبلية إضافة إلى عدة آبار أخرى بجانبها في المياه الجوفية ثم تم الوصل بين قاع الآبار من تحت الأرض بشكل انحداري يسمح بجريان مياه الآبار بين البئر الأول وحتى البئر الأخير ثم حفرت قناة من تحت الأرض حتى يصل إلى سطح الأرض

قال أبو عبيدة : سألت الأصمعي عنها وأهل العلم من أهل الحجاز.

فقالوا : هي آبار متناسقة تحفر ويباعد ما بينها ثم يخرق ما بين كل بئرين بقناة تؤدي إلى الماء من الأولى إلى التي تليها تحت الأرض. فتجمع مياهها جارية ثم تخرج عند منتهاها فتصبح على وجه الأرض.



تعدّ أنظمة الريّ المعروفة بالأفلاج منظومة متكاملة من الأساليب والطرق التي اتبعها الإنسان ليحافظ على بقائه أمام تحدي الطبيعة له.

تحديد المكان الذي ابتكرت فيه. فقيل : إيران وقيل: في بلاد الإغريق أو في مصر الفرعونية أو روما أو الهند أو غيرها. ثم نقلت في عصور تالية – مع امتداد معالم الحضارة – من مكان إلى آخر.

إلا أن الآثار المكتشفة في نصف القرن الأخير أشارت إلى أن المكان المرجح هو المنطقة العربية الواسعة على القارتين الآسيوية والأفريقية من بقاعها. وإن العرب هم الأقدم في المنطقة كانوا أكثر من قاسى من أزمة الجفاف.



2 ـ عروبة الأفلاج

* كلما تقدم الإنسان في نموه،كانت حاجته إلى التلاحم مع الآخرين أكبر، للقيام بعمل مشترك مع الآخرين؛ ذلك لسببين:

1ـ الأول حياتي مرتبط بالماء والغذاء معاً. وهذا ما كان يدفعه للتعاون في حفر البئر ونقب النفق وبناء القناة أوالحوض.

2ـ الثاني لسبب أمني يحمي به أرضه أو قطيعه أو منجمه.

ليست الأفلاج مبتكرات حديثة وافدة مع الغزاة في غضون الألف الأخير قبل الميلاد كما يقول البعض، بل قديمة قدم الإنسان العاقل الأول، الذي كان الإنسان العربي الأول وريثه الطبيعي في المنطقة ويؤكد معظم المؤرخين والخبراء أن هذا الإنسان (العربي الأول ) كان من أوائل من اكتشف تدجين الحيوان والزراعة مثلما اكتشف معها علاقتها الوثيقة بالماء والجفاف فاستثمر ما اكتشفه خلال حياته البدائية الأولى للتلاؤم مع البيئة التي أقام بها والتي كانت مطيرة غنية بالمنابع والأنهار والبحيرات والمساقط والأشجار فلما تبدلت ظروفها الطبيعية ( الجيولوجية والتضاريسية والمناخية ) بعد انحسار موجة الجليد الرابعة وتعرض الإنسان العربي ومنطقته لفتراتٍ طويلة نسبياً من الجفاف والتصحر وقلت موارده المائية التي هي أسُّ الحياة كان لابد له من أن يستخدم كل خبراته لأن : ( الحاجة أم الأختراع)

ووجود المناخ الفصلي للأمطار تسبب في وجود فصل للجفاف يهدد الزرع والسكان بالعطش، فيضطر الإنسان للبحث عن الماء، الأمر الذي يدلّ على أن أنظمة الري – هذه – محلية لا وافدة .



وهكذا فالفلج: ليس نظاماً حديثاً مستجداً، أحضره الفرس أو الرومان في حقائبهم عند الغزو،بل أقدم من تاريخ قدوم الغزاة، أياً كانت أسماؤهم، بأكثر من ألفي سنة على الأقل. والسبب: هو أن عملية ابتكاره مرتبطة بالبيئة المحلية وخصائصها، وليس بإدارة الأقوام الطارئة .

الأفلاج( القنوات )

وما الأفلاج في عمان وأقنية انطاكية وحلب وتونس، على سبيل المثال، إلا تأكيد مازال إلى اليوم يشهد على هذه المقولة، مقولة أن أنظمة الري هذه هي من ابتكار سكان المنطقة، وأنها وجدت من قبل مئات بل آلاف السنين قبل أن يأتي الفرس أو الرومان إلى هذه المنطقة.



3 ـ صراع من أجل البقاء

أهمية الماء في حياة العرب

عرف الإنسان الأول حاجته الملحة إلى الماء عند اكتشافه الزراعة ومدى اعتماد حياته على الماء وازدهارها بوجوده وموتها بفقده فجاهد لإيصاله إلى مستوطنته بشتى الطرق المبتكرة والأساليب المتطورة حتى اهتدى إلى أعقد هذه الأنظمة في مؤسسة الفلج ذات الأقنية والأنفاق الخفية حيث منظومة متكاملة من الأساليب والطرق والأدوات التي ابتكرها الإنسان الأول بعد اكتشافه للنار والزراعة وتدجين الحيوانات. عندما – أو بعدما – داهمه الجفاف والتصحر بعد انحسار موجة الجليد الرابعة التي خفت بعدها الأمطار في مناطق استيطانه وافتقد الماء الذي به كل شيء حي فراح يبحث عنه في مواضع أخرى.

كان ذلك كله بُعَيْد التبدلات الجذرية الأخيرة ، نتيجة انسحاب موجة الجليد الرابعة، إلى مواقع جديدة في الشمال وانسحاب مواقع هبوب الرياح الغربية العكسية الممطرة معها إلى الشمال،

وأخذ الجفاف ، يداهم معظم السهوب الجنوبية الغربية الخضراء ، فبدأت تتحول إلى صحارى وأشباه صحارى وعجزت عن مدّ سكانها المتكاثرين، بحاجتهم من الماء والغذاء فكان لابد لهم، أن يبذلوا من الجهد المتميز والعمل المبتكر ، ما يعوض بعض هذا النقص، إما بالبحث عن وسائل مبتكرة، تمكنهم من الحصول على الماء، أو بالهجرة إلى أماكن أخرى، أنسب لهم، من مواطنهم التي عمّها الجفاف.







4 ـ أساطير بناء الأفلاج

لا توجد أية معلومات دقيقة موثوقة لدى أبناء المنطقة عن تاريخ بناء الأفلاج ، وكثير من أبناء المنطقة يقولون بأني نبي الله سليمان بن داوود عليه السلام سخر الجن لبناء هذه القنوات، وإن هناك أسطورتين حول ذلك.

فالأولى تقول: عندما كان النبي سليمان بن داوود عليه السلام في إحدى رحلاته وهو في طريقه إلى البيت المقدس، رأى قلعة ((سلوت)) في عمان وطلب من الهدهد أن يتحرى عنها، فأخبره الهدهد بأن القلعة خالية، فنزل فيها داوود ووجد سكانها من البدو وليس لديهم ماء، فأمر الجن التي في طاعته أن تبني له ألف قناة في كل يوم من أيام إقامته والتي استمرت عشرة أيام، ومن يومها أصبح في عمان عشرة آلاف قناة.

أما الأسطورة الثانية فقد كان أبناء مدينة العين قد رووها لمحرر مجلة الهلال المصرية وجاء فيها:

بأنه أثيرت حول الأفلاج القديمة في العين أساطير وحكايات كثيرة، وأن معظم الأهالي وخاصة كبار السن يعتقدون بأن النبي سليمان بن داوود وجنوده من العفاريت قاموا بصنع تلك الأفلاج في العصور القديمة.

رواية ثالثة أن النبي سليمان بن داوود عليه السلام كان يطير ببساط الريح، ومر على فلاح يحرث أرضه بثور ضخم. وما أن رأى الثور سيدنا سليمان عليه السلام حتى توقف عن الحرث، فسأله الفلاح مندهشاً:

أيها الثور لماذا امتنعت عن الحرث؟ إنه لا يستحقق منك كل هذا التبجيل، فهو إنسان بخيل؟. وسمع سيدنا سليمان عليه السلام كلام هذا الفلاح، فنزل ليسأله : لماذا تصفني بالبخيل؟. فقال له الفلاح : لأنك تركت جنودك يشربون معنا ومياهنا بسيطة دون أن تنصحهم بالبحث عن مكان جديد للمياه، فقال له سيدنا سليمان عليه السلام: ولكني لاأعرف أين توجد منابع المياه الجديدة، فقال الفلاح لسيدنا سليمان عليه السلام: طائر الهدهد يستطيع أن يسمع الماء ويدلك على مكانه، وسمع سيدنا سليمان عليه السلام كلامه، واستعان بالهدهد وبالعفاريت من جنوده الذين أخذوا يبنون تلك الأفلاج ذات الأحجار الكبيرة في منطقة صحراوية تبعد الجبال عنها عدة كيلو مترات، ثم كيفية جلبها وبنائها ووضعها تحت الأرض.

وهناك قصة تقول: إنه في عهد الاحتلال الفارسي لعمان الكبرى جلب الفرس العمال المهرة من فارس لبناء هذه الأفلاج أثناء حكمهم للمنطقة، وذلك لسد احتياجاتهم من المياه العذبة، ولري المزارع المستخدمة لخدمتهم.

بعض الأقاصيص التي لا تستند إلى شاهدٌ أو أثرٌ، منها: أن الملكة هيلانة ، بنت لها أقنية وجدراً





5 ـ الأفلاج بين الجزيرة العربية والبلاد العربية

الحقيقة أن بناء الأفلاج أو حفرها يعود للألف الثالثة قبل الميلاد. اعتماداً على آثارها الباقية.

وكان سكان تلك المنطقة مهيَّئين بحكم مواهبهم الفطرية كغيرهم من الشعوب

منذ آلاف السنين لمعالجة هذه المشاكل الطارئة في مواعيدها .. وإلا تعرضوا للفناء ، بسبب الجوع والعطش.

والأفلاج موجودة في مختلف أجزاء المنطقة العربية، في شمال غرب السعودية في تيماء، وفي فلسطين وكذلك في المغرب العربي وللأستاذ محمود منسي في مجلة العربي الكويتية في عام 1997 مقالة جاء فيها : ( تحت حواري فاس ترقد قنوات للمياه مثل الشرايين لتصل إلى كل مسجد ومدرسة وبيت



وقد كتب( بيتر فاين ) : حقائق مماثلة عن مستوطنات أقيمت في عمان، اعتماداً على ما تم اكتشافه من مستوطنات الصيادين في منطقة ( رأس الحمراء ) قرب مسقط. أو ما اكتشف في ( هيلي – منطقة أبو ظبي) إلى جوار منطقة الظاهرة في عُمان. والتي أثبت فيها المكتشفون: إنها كانت تزاول الزراعة ، وتسقي مزروعاتها بالمياه، التي تجرها إلى هذه المستوطنات، وكمثال على قدم هذه المستوطنات وضلوعها محلياً في الزراعة أنه قد ثبت بالآثار المكتشفة: أن ( الذرة الرفيعة ) مثلاً، كانت تزرع محلياً، بكثرة ، ولم تكن مستوردة كما ظن بعضهم. وأن الآثار المكتشفة يرجع بعضها إلى العصر الحجري الحديث، قبل 9500 سنة .. وأن الصيادين كانوا يستخدمون موقع ( رأس الحمراء ) حوالي عام (6000 ق . م) وما بعدها ، وكانت المنطقة مكسوة بالغابات ( من أشجار القرم ).. وقد دلت الكشوف في مناطق متعددة من شبه جزيرة العرب، على انتشار تقاليد مشابهة. كما أكدت عمليات تحديد العمر، في موقع رأس الحمراء ، أنه كان مأهولاً طوال فترة الألف الخامس ق. م.

وكتب المهندس البلجيكي ( أندره ستيفن – Andre Stevens ) قائلاً : (( إن فكرة استيطان)) الإنسان لأرض عُمان وزراعتها بواسطة الأقنية قد وجدت آثارها، منذ الألف الثالثة ق.م: وقد أصبحت هذه المعارف من الأمور المسلم بها – اليوم – كحقيقة ثابتة. ففي عام 1973 : حددت بعثة ( هارفارد) عشرين موقعاً كان مأهولاً ومزروعاً .

وكانت البلاد تتمتع بمناخ أكثر رطوبة منذ (12 ) ألف سنة. لذلك كان مجتمعاً مركباً من المزارعين وسباكي المعادن. وأن المركز الرئيسي في هذا العصر كان في واحة البريمي ذات الموقع الممتاز والمياه الغزيرة.

استعمل سكان الصحراء القدماء أنفاقاً تحت الأرض حتى لا تتبخر المياه في أثناء مرورها تحت سطح الأرض نتيجة تعرضها للشمس، مما يعني التبخر وفقدان الكثير منها،وهي ما زالت قائمة سواء في فارس أو في الإمارات وعمان أو في حضرموت وفي العراق وبلاد الشام والمغرب العربي.

لقد حفر السكان الآبار في المناطق المرتفعة، ثم حفروا الأنفاق لجر مياهها بالراحة، إلى الأرض التي تقع في مستويات أدنى .. حتى ظهرت الأنفاق وقنواتها على سطح الأرض التي تقع في مستويات أدنى .. حتى ظهرت الأنفاق وقنواتها على سطح الأرض متحولة إلى مجرى مكشوف ، والتي ظل واحداً من أقدمها – وهو كنعاني – يعمل في فلسطين منذ الألف الثالث ق.م،

وفي فلسطين مازالت عين جيحون الباقية حيث كان الكنعانيون قد وفدوا في موجة الهجرة من شبه جزيرة العرب، قديماً جداً يقول د. أحمد سوسة : (( إنهم : من أقدم من وفد إلى بلاد الشام ، وإنهم استقروا فيها – ساحلاً وداخلاً – وبنوا المستوطنات والحصون، حيثما أقاموا. ومن جملة حصونهم التي شيدوها، في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد :

( النفق الطويل الذي حفروه في بلدة جازر الكنعانية ) الواقعة على بعد ( 35) كم إلى الشمال الغربي من ( أورشيلم الكنعانية اليبوسية ، القدس الحالية )، للوصول إلى ينبوع من الماء يقع تحت سطح الأرض.

لقد حفروا نفقاً للوصول إلى تلك العين، على حافة ( وادي قدرون ) المعروف بوادي ستي مريم – حالياً ويمتد النفق مسافة (17 ) ياردة إلى الغرب ، بين العين والحصن، وأهم مافي هذا الأثر القديم النفق الذي حفره اليبوسيون تحت الأرض لجرِّ مياه النبع في قناته. وهذا يبرهن على ابتكار هذه الوسيلة ( التقنية ) البارعة، إنما تمَّ من قبل العرب الكنعانيين في ذلك التاريخ، إن لم يكن قبل ذلك. وهي – والحالة هذه – وسيلة أقدم من أي غزوٍ خارجي للمنطقة العربية. أياً كان مصدرها وبذلك نصل إلى أمور عدة، أبرزها:

* قدم حفر الأنفاق عند العرب والعرب الكنعانيين

* كل هذه الحقائق التاريخية تمت قبل الغزو الفارسي بألفي سنة.

* قبل الغزو المقدوني بألفين وثلاثمائة سنة.

* قبل الغزو الروماني بألفين وخمسمائة سنة.

* قبل وصول العبرانيين ( اليهود ) بألف وثمانمائة سنة.

وقد أشار إلى ذلك علماء الآثار الصهاينة إلى أن المنطقة ـ أعني منطقة القدس ـ كانت مهمة ومتطورة، قبل عهد الملك داود. واستند العلماء في إعلانهم إلى عمليات التنقيب التي أجروها في القدس الشرقية طوال عامين، وأدت إلى اكتشافهم نظاماً معقداً لجر المياه وصفوه، بأنه (( أحد الأنظمة الأكثر تعقيداً وحماية في الشرق الأوسط )) وبأنه يرجع إلى 1800 سنة قبل الميلاد أي إلى ما قبل عهد داود بـ 800 سنة حيث كان يحكم القدس اليبوسيون الكنعانيون وهم بناتها الأوائل.

و قال جدعون أفني مهندس في هيئة الآثار في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائلية 23/ 7 / 1998:

(( إن القدرة على إقامة هذه الأسوار وشبكة المياه الدقيقة التي لا مثيل لها في المنطقة تدل على قيام مدينة كنعانية مُحصّنة ومحكمة قبل ألف سنة من قدوم أبناء إسرائيل إلى كنعان. ولا شك أننا سنحتاج الآن إلى تغيير كل ما تعلمناه، وأن نعيد مجدداً كتابة تاريخننا )).



ثانياً: أنواع الأفلاج

تكوين الأفلاج :

الأفلاج: جمع فلج، وهي القنوات: ومن تعريفاتها أنها نبع ماء جوفي يتفجر في أعماق بئر يحفر خصيصاً للوصول إلى مستوى الماء الجوفي المختزن في طبقات الصخور الرسوبية(المسامية) ،. والمحصورة بين طبقات من الصخور الكتيمة ( غير المرشيحة Impermeable )التي لا تسمح للماء المختزن بالنفوذ من مواضع اختزانه . فيظل حبيس مواضعه آلاف السنين ويعرف بـ ( مستوى الماء الجوفي

وبئر الفلج ( أو القناة ) - هنا – ليس بئراً عادياً: ينزح ماؤه بالدلاء أو ( القواديس )، وإن كان – في أول الأمر – كذلك. إذ أدخلت عليه بعض التعديلات ( أو المحسنات ) أو الإضافات عصراً بعد عصر عبر آلاف السنين

تعريف دقيق لبنية الفلج

إن الفلج في الوضع الراهن – مجرد حلقة من حلقات تطورية متتالية يرتبط سابقها بلاحقها ويكون آخرها نتيجة طبيعية أو تتمة لأولها و يرتبط سابقها بلاحقها ويكون آخرها نتيجة طبيعية أو تتمة لأولها. إذ قاد حفر البئر وصعوبة رفع مائه إلى ابتكار حفر النفق بميل خفيف يسهل جريان ماء البئر فيه بالراحة في أقنية حجرية شبه أفقية تم بناؤها على امتداد النفق تمتد من البئر الأم المرتفع حيث منبع المياه إلى الأرض المروية في مستوى منخفض بحيث يتاح للماء أن يجري بالراحة حتى يصل إلى نقطة على سطح الأرض تصبح فيها القناة مكشوفة كالمنبع أو الغدير وتكون – قبل ذلك – قد اخترقت طبقات الصخور غير المرشحة ( الكتيمة ) التي كانت تحصرها في مخازنها الجوفية . ويستمر جريان ( القناة أو الساقية أو النهير ) الحر مكشوفاً وعلى الراحة حتى تصل إلى أرض القرية التي أنشئ الفلج ( أو القناة ) لإروائها.

فالفلج ( أو القناة ) : يضم شبكة من الأنفاق والأقنية الرئيسية والفرعية. مع فتحاتها ومدرجاتها – أحياناً – مصممة خصيصاً لأداء هذه الوظيفة .

والمهم عند تعيين مكان حفر البئر أن يكون في موقع أكثر ارتفاعا ًمن المستوطنة أو الأرض التي يراد ريها لكي يتاح جرها عبر الأنفاق شبه المستوية مع ميل بسيط نحو الأسفل . و تحفر هذه الآبار في المنحدرات العليا للسفح أو الهضبة ولكن أنفاقها تنتهي عند أسفل السفح مخترقة طبقات الصخور التي تعترضها وقد يكون ابتداء حفر الأنفاق من النقطة المقدرة لنهايتها ثم يسير الحفر باتجاه المنبع إلى البئر الأم ويبنى: على طول النفق أقنية حجرية تسهل على المياه الجريان وتحول دون تبددها. ويتطلب ذلك دراسة دقيقة لمستوى ( البئر الأم ) ولمستوى الأرض التي يراد ريها ولمقدار زاوية الميل ولا يتم ذلك – على الوجه الأكمل – إلا من قبل أناس مختصين يملكون الخبرة والمعرفة نتيجة الممارسة.

والأفلاج أنواع أبرزها:

الأولى : الأفلاج الداوودية.ويتميز هذا النوع بثبات مستوى تدفقه إلى حدٍ كبيرٍ

الثانية : الأفلاج الغيلية: وتستمد هذه مياهها من تجمع الأمطار في المستويات الأعلى للمياه الجوفية. وهي غالباً أفلاج سطحية، مكشوفة من المنبع إلى النهاية . وتتم تغذيتها من مياه الوادي.

والثالثة: الأفلاج العينية: ويقصد بها : تلك الأفلاج التي يكون مصدر مائها الينابيع والعيون.

رغم تشابه معظم الأفلاج في بعض الصفات، إلا أن هناك اختلافاً كبيراً في نواحٍ عديدة، من حيث الاتساع والعمق ونوعية المياه المتدفقة وتكويناتها ومحتوياتها وطبيعة الأرض التي تسير فيها وعليها.

ومن أهم مميزات الأفلاج استمرار تدفق المياه ليلاً ونهاراً طوال العام إلى المزارع، دون أية تكاليف باهظة أوجهد بشري

أولاً: فلج الداودي

تنسب إلى نبي الله سليمان بن داود عليه السلام اسم الفلج الداودي.

ومن أهم صفات هذه الأفلاج تدفق المياه التي تعتمد على المخازن الجوفية الهائلة المتشكلة عبر آلاف السنين، ولا تتأثر بغير ذلك من أمطار موسمية وغيرها.

ثانياً: فلج الغيلي

وهي أفلاج موسمية لا تستمر إلا في فترات معينة ومرتبطة بالمياه الجوفية المشكلة من مياه الأمطار بشكل كبير.

ومن عيوب هذه الأفلاج اعتمادها على كمية الأمطار، فإذا لم تتساقط الأمطار جفّت هذه الأفلاج وخاصة إذا انتهى المخزون الجوفي للمياه في قاعدتها قرب الجبال ومن هذه الأفلاج جبل حفيت الذي يعلو أكثر من ثلاثة آلاف قدم فوق سطح البحر، ويخزن كميات كبيرة من المياه منذ الأزمنة القديمة وتزيد كمية المياه إذا ما هطلت غزيرة .

ثالثا: فلج الحضوري

تتدفق مياه هذه الأفلاج من عمق الطبقات الجيولوجية المتكونة من الأزمنة السحيقة، وعادة ما تكون مصاحبة لمواد كبريتية وتصلح في كثير من الأحيان لعلاج بعض الأمراض مثل الروماتزم

وأبرزها ((أم سخنة )) في العين وفلج (خت) و (المهب) في رأس الخيمة.





المحور الثاني:الأفلاج في مدينة العين

أولاً: توزيعها الجغرافي

ليست الأفلاج مجرد ماء يجري في باطن الأرض من النبع حتى المزارع، وإنما هو عمل هندسي رائع يدل على الذوق الرفيع لسكانها، وأرقى ما وصل إليه الفن المعماري الهندسي الفريد من نوعه في هذا المضمار في المنطقة، وهو يدل على الجهد الكبير المبذول في غياب آلات الحفر والاستكشاف الحديثة.

ويكون مصدره الجبل أو التلال وقد يصل بُعد المناطق التي يراد الانتفاع بها إلى عشرين ميلاً ، وأحياناً تجري هذه القنوات إلى مسافة أكثر من أربعين قدماً تحت الأرض.

ويقول المؤرخ العماني بدر العميري: إن الفلج هو الماء الجاري عبر قناة مشقوقة في الأرض ومصدره الأساسي المياه الجوفية الباقية من مياه الأمطار التي تمكث في طبقات الأرض وهذه المياه المترسبة في باطن الأرض يكون مصدرها المرتفعات الجبلية التي تعتبر بمثابة خزانات ينفق مخزونها بطريقة منظمة من خلال قنوات تنساب للانتفاع بها ، فقاموا ببناء هندسي كلفهم الجهد والوقت والمال ونجحوا في عملهم الذي يوحي بأنهم كانوا مهرة في هندستها التي خلّدت لهم تاريخاً مجيداً.

أما سوزانا فتقول: بأنه لا توجد في الجزيرة العربية أنهار أو بحيرات سوى الآبار التي تجلب منها المياه العذبة للشرب، ولكن هناك بعض القنوات لإحضار المياه من الجبال وخير مثال على ذلك مدينة العين التي تحوي نظاماً لقنوات مائية تحت الأرض بدقة متناهية، تجلب المياه من جبل حفيت ومجموعة الجبال الواقعة في جنوب العين وإلى الشمال من الربع الخالي وهذا النظام معروف في الإمارات العربية بالأفلاج.

ولكن لم يقف سكان المنطقة أمام هذه التحديات مكتوفي الأيدي، وإنما استجابوا للتحدي واستخدموا عقولهم وأيديهم للاستفادة بالقدر الأقصى من المياه الجوفية المتوفرة لديهم، فكانت مياه الأفلاج هي التحدي المناسب للحصول على كفايتهم من المياه العذبة لاستمرار عجلة الحياة في منطقة العين، التي سعى أبناؤها منذ القدم إلى توفيرها، ويشهد على أعمالهم ما تبقى من قنوات الري والأفلاج .

وقد لعبت أفلاج مدينة العين دوراً كبيراً في الحفاظ على الزراعة ومدها بالماء الذي هو أساس الحياة والاستقرار البشري وتفنن القدماء في بنائها على الرغم من إمكانيتها البسيطة في إيجاد سبل للحصول على الماء اللازم لهم.

وقد ارتبط اسم قبيلة العوامر بهذا الفن؛ فامتهنوه على مر العصور، وفاقوا غيرهم فناً، ومهارة في هذا المجال فجاءت الأفلاج أحد أعمالهم التي أثبتت الفن الهندسي الفريد من نوعه لدى سكان مدينة العين الذين اعتمدوا على مياه الأفلاج اعتماداً شبه مطلق، نظراً لعدم وجود مصادر أخرى.

ولإقامة الفلج تحفر الآبار للبحث عن المنابع ( الأم ) أولاً، في صخور الجبال التي تنعدم فيها المنافذ وتنحصر بينها المياه مؤلفة هذه المستويات الجوفية المحصورة. فإذا ماحفر الإنسان البئر وثقب هذه الصخور .. أوجد للماء منفذاً تنطلق منه ، وتُعتبرُ ( منبعاً أماً) للفلج.

ويرتبط وجود الأفلاج والعيون بأمرين حيويّين

أ- وجود السلاسل الجبلية بسفوحها ومنحدراتها، ووديانها، المساعدة

ب- وجود المناخ الفصلي للأمطار، التي تسبب وجود فصل للجفاف يهدد الزرع والسكان بالعطش، فيضطر الإنسان للبحث عن الماء



إحصاء في عمان :الأفلاج القائمة 4219 . كما أحصي عدد الآبار بـ 167 ألفاً وذلك في عام1990.



خطوات بناء الأفلاج:

أولها: عملية اختيار المكان المناسب لحفر الفلج، ويجب أن تتوفر فيه عوامل جغرافية حدودها وفق ملاحظاتهم الذاتية لطبيعة بيئتهم منها: وجود مرتفعات جبلية واسعة تتخلل تضاريسها أودية تستقطب مياه الأمطار لا تكون من الصخور المانعة لتسرب المياه إلى طبقاتها التحتية

أما ثاني الخطوات فهي : عملية حفر الفلج وشق أقنيته

* فإذا توافقت حساباتهم مع ما هو مطلوب فأول خطوة يخطونها هي حفر بئريين استكشافيين . الأول عند أم الفلج المحددة والآخر عند المكان الذي سيخرج منه الفلج إلى سطح الأرض ( الشريعة).

* عملية شق الفلج من الشريعة . وفي اتجاه الأم مراعاة لميل الساقية ..

واعتبروا ماء الأفلاج بمثابة كل شيء في حياتهم فهم يشربون منه ويستظلون بظلال الأشجار التي تروى منها، ويسقون الماشية، ويستخدمونها في بناء المساكن، فالأفلاج بالنسبة لهم أساس الحياة وبدونها لا قيمة لهم.



يتغذى بعض هذه الأفلاج بالمياه من الطبقات الجيرية التي توجد بالقرب من قاعدة الجبل فعلى سبيل المثال فإن جبل حفيت ترجع تكوينات طبقاته إلى العصر الأيوسيني، أحد عصور الزمن الجيولوجي الثالث، ويبلغ سمكها حوالي (250) متر، ونوعية المياه فيها جيدة.



وتتركز أهمية مدينة العين في وقوعها بالقرب من سلاسل الجبال التي تضم مورداً من المياه العذبة، وحتى كلمة العين قد تكون مشتقة من كلمة العيون، لوجود هذه المنابع في المنطقة فسميت بالعين.



أهم الأفلاج في مدينة العين

يقارب ثلاثمائة فلج، ولكن معظمها اندثر ولم يبق منها إلا بعض الأفلاج وأهم هذه الأفلاج التي مازالت تعمل إلى يومنا الحاضر هي:

أولاً: فلج الهيلي

ثانياً: فلج القطارة

ثالثاً: فلج الجيمي

رابعاً: فلج المعترض

خامساً: فلج المويجعي

سادساً: فلج الداودي.

سابعاً: فلج العين أوالصاروخ

ثامناً: فلج مزيد

تاسعاً: فلج عين أم السخنة أو فلج زايد









ثانياً:بناء الأفلاج وصيانتها



نظراً لأن بناء الأفلاج واستخراج المياه من الأرض يحتاج إلى جهد شاق ونفقة ومهارة، مما برز معه الحاجة إلى هذا العمل، فإن ذلك أدى إلى ظهور جماعة أو قبيلة العوامر، الذين يرثون هذه الحرفة أباً عن جد.

ويعتبر العوامر من المختصصين والحاذقين في إنشاء وبناء الآبار والأفلاج في مختلف أجزاء عمان ومنطقة العين.

ونظراً لما في هذا العمل من خطورة ومشاق فإن كثيراً ما يرفض أبناء المنطقة العمل لوجود بعض الأفاعي السامة أو سقوط الأحجار أو الرمال أو الجدران الاستنادية إلى جانب بعض المخاوف من الأوهام والخرافات والمعتقدات السائدة في المنطقة منذ القديم.

الذين يحفرون الأفلاج في منطقة الخليج العربي والجزيرة العربية قليلون نسبياً، ولا يتوفر العدد الكافي من العمال لمثل هذه العملية لصعوبتها.

أما الذين يعملون في هذه الأعمال وهم في الغالب من العوامر فهم يتمتعون بكفاءة عالية في معرفة الينابيع تحت الأرض ويحددون أماكن الحفر وخط سير النفق.



*تحديد المصدر الرئيسي

يعين المكان المناسب من قبل الباصر ( أي الخبير في معرفة مواقع وجود المياه في باطن الأرض عن طريق الحدس والإحساس) حيث يتم حفرالبئر الأم الذي يصل عمقه إلى ما يزيد عن 20 متراً ثم يبدأ الحفر في أربعة أو خمسة آبار ولعل أهم العقبات التي قد تصادفهم وجود الصخور الصلبة والتي لابد من اختراقها، والتكوينات اللينة،وعن طريق هذه الفتحات يخرج العمال مواد الحفر التي يصادفها الحفارون أثناء عملهم في الأفلاج، وتستخدم هذ الفتحات أيضاً كنوافذ لدخول الهواء بين الفتحة الأولى والثانية حوالي (20) متراً تقريباً إلى مدى انحدار الأرض، ونوع المواد، ثم توصل هذه الآبار بعضها ببعض عن طريق نفق من تحت الأرض ويعرف بالسل وهم يحملون المصابيح والفوانيس والحبال، للتأكد من عدم إنسداد هذه القنوات وعندما يصل إلى مقصده سواء إلى المزارع، أو غيرها يبدأ بعمل السواقي أي العواميد التي تسقي النخيل، وتعمل عادة من الاسمنت والطابوق، وقد يقوم العمال بتجميع عدة أفلاج بالفلج الرئيس، وتسمى هذه الأفلاج بالسواعد.



استطاعت دولة الإمارات المحافظة على نظام الأفلاج والحد من ظاهرة التصحر رغم وقوعها جغرافيا في المناطق الجافة أو التي يكثر فيها التعرض لفترات الجفاف حيث إنه أمكن من خلال إجراء الصيانات المستمرة للأفلاج المحافظة عليها والإبقاء على المساحات التي سادتها الزراعات المستديمة.

* أما ظاهرة جفاف بعض الأفلاج فيعود إلى أسباب نجمل أبرزها في سببين:

1- عدم المداومة على الصيانة الدورية المعروفة والمتمثلة في إزالة ما يتساقط من أتربة وصخور وطين داخل أنفاق الأفلاج .

2- ندرة هطول الأمطار بالكميات الكافية لتعويض ما يضخ من مياه.



* دور العوامر في بناء فلج الصاروج

فكر زايد بن سلطان في إعادة تجديد جميع الأفلاج وصيانتها بمساعدة قبيلة العوامر المتخصصة في حفرها وصيانتها كما أمرهم بحفر فلج الصاروج الذي يعتبر من أحدث الأفلاج التي حفرها العوامر في مدينة العين، واستغرق حفر نفق واحد في فلج الصاروج يبلغ طوله كيلو متر ونصف، حوالي ثمانية عشر عاماً من الجهد الشاق والعمل المستمر حيث بدأ العمل منذ عام (1948).

ويقول العارفون بالفلج: إن فلج الصاروج كاملاً يمتد حوالي (15) كيلو متراً في حين يبلغ أقصى عمقه (22) متراً، وهو بمنتهى الدقة في الهندسة، والتصميم، ومن الجدير بالذكرأن العوامر توقفوا عن العمل حالياً حيث اهتمت الدولة بهم، وبنت لهم المدن والقرى الحديثة في أماكن وجودهم، وقدمت لهم كافة الخدمات العامة من مدارس وغيرها مما يضمن لهم الاستقرار والرفاهية، بعد أن استقرت أعداد كبيرة منهم في الوجن ، والخزنة والختم.

ثالثاً: نظام توزيع مياه الفلج

* بعد أن تبدأ مياه الفلج في الجريان يتم تقسيمها بين من شاركوا في عملية الحفر، على أساس وحدة زمنية متعارف عليها هي البادة (12 ساعة) ،أوالأثر ( نصف ساعة) وكانت مدة الأثر تحدد في النهار بواسطة الظل، وبالليل بواسطة حركة النجوم .. حيث لم يكن هناك ساعة يستدل بها على الزمن.

* وهناك استخدامات عامة لمياه الفلج لجميع سكان البلدة كمياه الشرب وتغسيل الموتى والاستحمام وسقي الحيوانات المنزلية وتكون من حق أي شخص ولو لم يكن له حصة في الفلج.

* قواعد تقسيم المياه : تقسيم المياه بين الأفراد يقوم: على علم دقيق وخبرة ومهارة، لا يتقنها إلا القليل من الناس، وتأتي بحكم الممارسة في العمل ، وتكون على ضابطين .

الأول ليلي: يعتمد على النجوم فقد حصروا عدد النجوم المتعارف عليها وقدروا الوقت والمسافة بين كل نجمتين بين طلوع كل نجم والذي يليه.

والثاني نهاري:

وقد قسموا وقت النهار إلى 24 أثراً – أي اثني عشر ساعة، ووضعوا لهذا التقسيم معياراً زمنياً وربطوه بمعيار تطبيقي على الأرض بمقياس محدد وله أوصاف محددة، ونصبوا عموداً خشبياً بطول مترين ونصف واستخدموا تحوّل ظله لتحديد المواقيت ومقدارها.





* كان زايد بن سلطان يشجع الأهالي على تطهير الأفلاج القديمة ويمد المزارعين بالمضخات والأدوات اللازمة لاستصلاح الأراضي الجديدة وزراعتها وبدأ اللون الأخضر يزحف على مدينة العين، وبذلك بدأ زايد بن سلطان يسير في خطى أسلافه السابقين وتقاليدهم في العناية بالماء ونظام الري وحفر الأفلاج اللازم لذلك فقد قام الحكام السابقون بأعمال جليلة؛ منهم الشيخ زايد بن خليفة الذي قام بإعادة بناء وتوسعة فلج الجاهلي وفلج المويجعي كما قام ابنه خليفة بن زايد ببناء فلج المسعودي.



* الأفلاج ونظام الري

أما التسهيلات العامة المقدمة لاستعمال ماء الفلج فهي: الاستعمال للشرب، ثم أحواض الاستحمام ومغاسل الموتى ويعني ذلك أن ماء الفلج مخصص للأغراض المعيشية وسقاية الحيوانات

* العريف:

تناط مسؤولية توزيع المياه ومعرفة الأوقات وحلّ الخلافات إلى شخص يسمى العريف مقابل شيء معين من ماء الفلج.

* البادة:

يعتمد التوزيع أساساً على تقسيم مياه الفلج إلى ما يعرف باسم البادة

أي أن البادة تكون مدة الواحد منها (12) ساعة وربع البادة تسمى الربيع ومدتها (3) ساعات . والبادة المملوكة يحق لصاحبها بيعها أو إيجارها.

ويجيد العريف معرفة الوقت الذي تنتهي فيه البادة وبدء البادة الأخرى.

* السدس

ينقسم السدس إلى أربعة أقسام، وكل قسم يسمى ربعة وقسموا كل ربعة إلى ستة قياسات، فالسدس معهم أربعة وعشرون قياساً، وأرباع البادة يسمونه الربيع وهو ستة أسداس السدس.

* المشاع:

أما حصة أونصيب البادة فبعضها مملوكة للمزارعين، وبعضها الآخر يطرح للاستئجار لأولئك الذين لا يملكون نصيباً وتسمى هذه المشاع.



• وهناك طريقة أخرى حيث يختار الناس لهم بقعة مستوية السطح مقابل أشعة الشمس منذ طلوعها إلى غروبها في حدود عشرة أمتار طولاً وأخرى عرضاً وغير معرضة للظل ، وينصب في وسطها عمود طوله متران ونصف.وتسمى هذه العملية((ظل العمود الخشبي))، أما في حالة عدم وجود الشمس لظروف الغيوم، فيتولى العريف الذي لديه الخبرة السابقة،

أما تقسيم المياه ليلاً فيكون بعد ظهور النجوم حيث يراعى طول الليل وقصره في هذه العملية الحسابية الدقيقة والبالغة التعقيد التي يصعب معرفتها إلا بالممارسة.

أما بعد أن ظهرت الساعة بأشكالها المختلفة، فإنها حلت تلك المشكلات القديمة للوقت

وهناك طريقة أخرى يتفق عليها المساهمون، هي توزيع الماء بتناوب ويتم بدوران الماء ولكل قطعة أرض فترة محددة لتوزيع الماء، وذلك حسب المشاركين فيه، ويساعد العريف في مسؤولياته أمين الدفتر وكاتبه والدلال الذي يساعد العريف في البيع.



* ومن عيوب هذا النظام أنه مكّن الأغنياء من المزارعين الإقطاعيين من الاستفادة من مياه الأفلاج بصورة أكبر من أولئك المزارعين الفقراء والذين لا يمتلكون إلا القليل، فكان الغني يشتري فترات زمنية أطول ويروي بها مزارعه.

* عندما علم زايد الذي اشتهر بعدله بأن السقاية في العين وضواحيها تخضع لنظام ملكية الماء، ورأى أن مياه الأفلاج مملوكة لكبار الاقطاعيين الأغنياء والذين كانوا يقومون بسقاية أراضيهم خمس مرات في الشهر الواحد، في حين لا يستطيع الفقراء الحصول عليه إلا مرة واحدة خلال عدة أشهر، وأحياناً يصعب عليهم ذلك طوال السنة، مما يؤثر على مستوى دخلهم ومزارعهم.

وهنا تدخل زايد بن سلطان شخصياً في هذه المسألة الاجتماعية الخطيرة في مدينة العين وضواحيها، وعالجها بكل حزم، وجمع أصحاب المال والأراضي من الأغنياء، وعرض عليهم أن تكون سقاية الماء من الأفلاج حرّة مشاعاً للجميع، وقال زايد بن سلطان في هذا الصدد: (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ)).

وبعد ذلك أعلن زايد بأنه قد أباح للفقراء السقاية من حقوقه الخاصة به وبأسرته من مياه الأفلاج، كما أن فلج الصاروج والذي كان يشرف على بنائه مع قبيلة العوامر كان قد اقترب من نهايته وأصبح صالحاً للاستخدام، لذا فإنه حرّم تماماً على كبار أصحاب الأراضي الإقطاعيين والمنتفعين به.

وعندما رأى الأغنياء تلك الأوامر الصادرة من زايد بن سلطان حاكم منطقة العين، رضخوا لمطالبه وأوامره وأتوا إلى زايد بن سلطان يعرضون موافقتهم على رأيه، ومن ثم أصبحت السقاية منذ عام (1966) في مدينة العين وضواحيها حرة ومشاعاً بين الجميع وخاصة الفقراء.





الأربعاء، 30 ديسمبر 2009

دراسة عن: أفلاج العين

أفلاج العين» في ندوة تراثية لمركز زايد للتراث والتاريخضمن الفعاليات الثقافية السنوية لمركز زايد للتراث والتاريخ التابع لنادي تراث الامارات بالعين والتي يهدف من خلالها الى تسليط الضوء على تراث دولة الامارات العربية المتحدة والحفاظ عليه وبعثه حيا في نفوس الأجيال المقبلة نظم المركز ندوة تراثية بعنوان «الأفلاج في مدينة العين» وذلك بمشاركة نخبة متميزة من الباحثين والمتخصصين في مجال التراث المحلي. وقدم الندوة الدكتور أمان الدين محمد حتحات من جامعة الامارات ومريم سلطان ربيع الظاهري باحثة متخصصة في شئون التراث المحلي.وفي بداية الندوة تحدث الدكتور أمان الدين محمد حتحات عن الفلج وتعريفه من الناحية اللغوية وعرض بعضا من الشواهد الشعرية القديمة في هذا الاتجاه. واشار الى ان الإنسان العربي عرف الفلج منذ القدم ولم ترد فكرته مع الغزاة كما يقال. كما تحدث الدكتور أمان الدين عن جدلية الصراع بين الجفاف والرطوبة في المنطقة العربية نظرا لتغيير الدورة المناخية مما دفع بالإنسان العربي الى التفكير في طريقة لحفظ الماء فاهتدى الى حفر الأفلاج في باطن الأرض. ووقف عند الشواهد القديمة المكتشفة في انحاء الجزيرة العربية في كل من الامارات وعٌمان والسعودية التي تحاكي الاثار المكتشفة في بلاد الشام . وغيرها من بلاد العرب مشيرا الى انها على الرغم من تشابهها في بعض الصفات إلا انها تختلف من حيث الإشعاع والعمق ونوعية المياه وتدفقها. بعد ذلك تحدثت الباحثة مريم سلطان ربيع الظاهري عن تاريخ الأفلاج في مدينة العين وعن توزيعها الجغرافي والتي وصل عددها الى 300 فلج مشيرة الى ان اغلبها اندثر بفعل عامل الزمن وأن من أهم ما بقي منها شاهدا على الحضارة والتراث العربي الأصيل أفلاج الهيلي والقطارة والجيمي والمعترض والمويجعي والداودي والصاروج ومزيد..
دراسة تحت عنوان : تطور الكتابة العربية

الدكتور أمان الدين محمد حتحات
جامعة الإمارات العربية المتحدة
وحدة المتطلبات الجامعية العامة، برنامج اللغة العربية.
مراحل تطور الكتابة العربية حتى نهاية القرن الثاني الهجري
لم تحظ أمة من أمم الأرض بما حظيت به الأمة العربية من تاريخ عريق للكتب والمكتبات
يمتد إلى ما قبل خمسة آلاف عام، ولم يكن هذا الامتداد من فراغ، بل جاء نتاجًا للعلاقة الوثيقة
بالميراث الثقافي والحضاري لهذه المنطقة، التي تعاقبت عليها حضارات شتى تراكمت، وتفاعلت،
وتمازجت في نسيج رائع، حتى غدت بلادنا مركز إشعاع فكري امتد نوره؛ ليغطي العالم القديم
المعروف آنذاك.
وهنا يتضح لنا هذا النسيج الذي يبرز عمق الجذور في تاريخ الكتابة والتوثيق، حيث نمت
في الأرض العربية، وفيها نشأت أقدم المكتبات في العالم، وفي رحابها استقرت وحفظت الوثائق،
والنصوص المكتوبة منذ آلاف السنين، شاهدة على حضارة عريقة، ترمز لما مثلته المعرفة
( والتدوين والكلمة المكتوبة والوثيقة من أهمية بالغة.( 1
تجلت ملامح هذا الإشعاع فيما بقي لدينا من آثار للكتابة؛ من ذلك ما ذكره الجاحظ والهمذاني
عن النقوش الكثيرة والكتابات التي زين بها قصر غمدان، وكعبة نجران وباب القيروان وباب
سمرقند وباب الرها وعمود مأرب وركن المشقر والأبلق الفرد، فهذه الكتابات لم تكن لتوضع لو
لم تكن تترجم ما كان معروفًا من كتابات وميراث، وقد كانوا يهدفون من وراء ذلك إلى الفكرة
التي سعى الأقدمون إليها، فهذه الكتابات التي كانوا ينقشونها في أقصى المواقع سعوا إلى
( حفظها من الاندثار؛ لكي يشاهدها من م  ر بها، ويحفظ ذكرها على م  ر الأزمنة والعصور( 2
تلت تلك المرحلة مرحلة الإسلام الأولى حيث كان العرب في هذه المرحلة يهتمون كبقية الأمم
القديمة في تدوين مذكراتهم، وأحداث عصرهم في نقوش كما أكدت آثار اليمن وغيرها، ولم
يتركوا لنا آثارًا مكتوبة كثيرة، ومرد ذلك طبيعة حياتهم آنذاك، واعتمادهم على الترحل والانتقال،
يضاف إلى ذلك قلة ال َ كَتبة، وإن كانوا على جانب كبير من البيان والبلاغة، حتى إن النبي العربي
الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الأ  م  ي لم يجد إلا نفرًا قلي ً لا في أمته لكتابة ما جاء به
الوحي حيث د  ون القرآن الكريم على الر ّ ق، وعلى الحجارة، وسعف النخيل، أي على النحو الذي
حفظ به العالم القديم ملحوظاته وأحداث الأزمنة الغابرة.
وتؤكد البحوث المعاصرة أن عددًا من الصحابة تركوا آثارًا مكتوبة بخطوطهم عثر عليها
مؤخرًا( 3) إضافة إلى أن القرآن الكريم الذي يعد أول كتاب سماوي د  ون مع ظهور الإسلام كان
يحفظ أو ً لا في صدر النبي صلى الله عليه وسلم حتى تجتمع إليه الكتبة.
بعد هذه المرحلة أدى العرب بعد ظهور الإسلام دورًا خطيرًا في تاريخ الكتب والمكتبات، فقد
نقلوا إلى اللغة العربية كل ما وجدوه من تراث سابق، وأضافوا إليه ما ابتكروه من علوم، وما
أبدعوه من آداب وفنون، حافظوا على هذا الرصيد الحضاري؛ نق ً لا وإضافة إلى أن أسلموه إلى
أوروبا في القرن الثاني عشر للميلاد؛ فكانوا موئ ً لا عظيمًا للثقافة، وكانت مكتباتهم مستودعًا
أمينًا للتراث الإنساني منذ أقدم العصور.
قبل الخوض في تفصيلاتنا نجد أن من الضرورة بمكان أن نشير إلى أ  ن تاريخ الكتاب قد
ارتبط بعاملين أساسيين:الأول عامل ثقافي حضاري قائم على العلم، ونشوء التدوين، والثاني
عامل مادي فني متعلق بتوفر مواد الكتابة من البردي، وال  ر ّ ق والورق فيما بعد،وتهيئتها لصناعة
الكتاب، ثم كان لظهور الكتاب دور في التمهيد لنشوء المكتبات التي امتدت إلى شتى الأمصار.
الصحيح أن الكتاب ارتبط بمراكز العلم، وولد في قاعات الدرس بشكل عام، فقد عاشت المكتبة
في كنف أماكن العبادة، مثل الأزهر في مصر، والزيتونة في تونس، والجامع الكبير في صنعاء،
هذا كله يترجم لنا توفر الج  و الثقافي، وانتقال العلوم من المشافهة إلى التدوين، ونشوء المراكز
العلمية.
تط  ور أدوات الكتابة
لقد كان لأدوات الكتابة، ووسائلها الدور البارز في ظهور الكتاب؛ لذا فإّني سأقف وقفتين؛
الأولى عن المواد التي كانوا يكتبون عليها، والثانية عن المواد التي كانوا يكتبون بها.
أما الأولى؛أي المواد التي كانوا يكتبون عليها فهي ضروب شّتى؛ أبرزها:
1 – الجلد: وكانوا يسمونه ال  رق، والأديم، والقضيم، والفرق بينها غير واضح من النصوص
والروايات نفسها، ولكن المعجمات تجعل ال  رق الجلد الرقيق الذي يسوى ويرّقق ويكتب عليه،
وتجعل الأديم الجلد الأحمر أو المدبوغ، وتجعل القضيم الجلد الأبيض يكتب فيه، وقد ورد ذكرها
كّلها في الشعر الجاهلي.
2 – القماش: وهو إما حرير وإما قطن، ويطلقون على الصحف إذا كانت من القماش:
المهارق، مفردها ال  م  ه  رق، وهو لفظ فارسي مع  رب.
3 – النبات: وأشهر أنواعه العسيب، وجمعه  ع  سب وهو السعفة، أو جريدة النخل إذا يبست
وشذبت من خوصها. وقريب من العسيب: ال ُ ك  رنافة وجمعها كرانيف، وهي أصول السعف
العراض اللاصقة بالجذع، وقد ورد أن الوحي كان يكتب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
على العسب والكرانيف. ومن ذلك ال  رحل ويكون من الخشب الذي يوضع على ظهر الجمل
ليركب. ومن الخشب أيضًا الروسم (الخشب العريض) والسهم والعصا.
4 – العظام: وأشهر أنواع العظام التي كانوا يكتبون عليها: الكتف واللوح والأضلاع.
5 – الحجارة: وهي حجارة بيض رقاق يكتب عليها، وقد كتبت عليها آيات القرآن الكريم على
عهد الرسول (ص)، ومن تمام الحديث عن النقش على الحجارة أن نشير إلى النقش والكتابة
على البناء،فقد ورد أن رسول الله (ص) لم يدخل الكعبة يوم الفتح حتى أمر بالزخرف فمحي
وأزيل، وأمر بالأصنام فكسرت أي النقوش والتصاوير، وقد روى ابن الكلبي أنه أخذ علمه
بأنساب العرب مما وجده على جدران كنائس الحيرة.
6 – الورق: وقد عرف الصينيون صناعته منذ زمن بعيد، وقد استخدمه العرب في الكتابة،
فقد ذكر ابن النديم أنه رأى أوراقًا من ورق الصين فيها كتابة بخط يحيى بن يعمر المتوّفى عام
90 هجرية، إضافة إلى أن عثمان بن عفان عزم على كل رجل معه من كتاب الله شيء أن يذهب
به إليه، وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه شيء من القرآن. وقال عمرو بن نافع مولى
عمر بن الخطاب " فاستكتبتني حفصة بنت عمر مصحفًا لها....فلما بلغت إليها حملت الورقة
والدواة " وغير ذلك من الأدلة التي لا أرى داعيًا للتفصيل فيها.
ولقد كانت لهذه المواد المكتوبة ألفاظ عامة يطلقونها عليها ليدّلوا على المكتوب، وما ُ كتب
عليه معًا، من ذلك
الصحيفة: وقد تكون جلدًا أو قماشًا أو نباتًا أو حجرًا أو عظمًا أو ورقًا.
الكتاب: وهي لفظة قد تكون أع  م من الصحيفة، وأكثرها شيوعًا
الزبور: وجمعها  زبر، وقد يراد بها الكتاب الديني، ولكنها تطلق أيضًا على غيره من
الكتب.
أما الثانية؛ أي المواد التي كانوا يكتبون بها فهي ثلاثة أمور:
1 – القلم: وقد أسهب الكثيرون في وصفه كابن قتيبة، وابن النديم، والصولي، والبطليوسي،
والقلقشندي، وخلاصة ذلك أنه مصنوع من القصب يق ّ ط، ويقّلم، أو يبرى، ثم يغمس في مداد
الدواة، ويكتب به.
2 – الدواة: وهو الوعاء الصغير الذي يوضع فيه الحبر؛ ليغمس فيه القلم، ويصنع عادة من
بعض المعادن المعروفة آنذاك كالحديد، أو النحاس.
3 – المداد: أو النِّ ْ قس كما يطلق عليه وهو سائل يؤخذ من رماد بعض المواد المحروقة، أو
من أنواع معينة من الحجارة الملونة تد ّ ق وتطحن وتخلط بالماء حتى يصبغ لونه، وهو على
ألوان أشهرها الأسود. وكثيرًا ما كانوا يمحون المكتوب بالمداد حين تنقضي حاجتهم منه، ثم
يستخدمون الصحيفة لكتابة شأن آخر من شؤونهم، ويسمون هذه الصحيفة التي يكتبون عليها
أكثر من مرة طرسًا.
تنوعت موضوعات الكتابة العربية وتعددت موادها، وارتقت شيئًا فشيئًا مواكبة ارتقاء
الفكر العربي نتيجة لعوامل كثيرة لاتغيب عن أذهاننا جميعًا، ولا يتسع المقام للوقوف عليها.
ولعل أول هذه الموضوعات التي كانوا يدونونها: الكتب الدينية فقد كان اليهود والنصارى
يد  ونون كتبهم التي يتلونها باللغة العربية إضافة إلى العبرية والسريانية، بدليل أن المسلمين بعد
فتح خيبر وجدوا مصاحف فيها التوراة فجمعوها ثم ردوها على اليهود ( 4) والموضوع الثاني
الذي حرصوا على كتابته هو هذه العهود والمواثيق والأحلاف ( 5) ونضيف إلى ذلك موضوعًا
هو أكثر اتساعًا، وألصق بحاجات المرء وحياته المعاشية من غيره، هو الصكوك التي تكتب فيها
حسابات التجارة والحقوق( 6) ومن ذلك أيضًا كتابة الرسائل بين الأفراد، يح  ملونها أخبارهم،
ويض  منونها ما تتطلبه شؤون حياتهم( 7) وكذلك مكاتبة الرقيق، وذلك أن يتفق العبد وسيده على
قدر معلوم من المال يكون في الغالب مساويًا لثمنه، فإذا أداه لسيده عتق وأصبح حرًا ( 8) ومن
ذلك الكتابة على الخاتم الذي تختم به الرسائل، وأوعية الطعام، أو الشراب، بالإضافة إلى كتابة
الأنساب والشعر والأخبار.
الكتابة في صدر الإسلام
قبل أن نخطو نحو الحديث عن الكتب والمصنفات، أجد من الضرورة بمكان أن أشير إشارة
سريعة إلى الخط العربي المستخدم في الكتابة حتى تتكامل الصورة في ذهننا، ونحيط بها إحاطة
السوار بالمعصم.
ظلت نشأة الخط موضع أخذ ورد متأرجحة بين آراء العرب القدامى، والمستشرقين المحدثين،
وسواء أكان الخط توقيفًا عّلمه الله آدم، ثم أصابه إسماعيل بعد الطوفان( 9) ، أم يكون اختراعًا
أخذته العرب عن الحيرة، والحيرة أخذته عن الأنبار، والأنبار أخذته عن اليمن، أو أخذته عن
العرب العاربة الذين نزلوا في أرض عدنان( 10 )، أم يكون مشتقًا من الخط الآرامي كما يذهب
بعض المستشرقين( 11 )، أم يكون مشتقًا من الخط النبطي كما يذهب المستشرقون اليوم.
تاريخ الكتابة المنقوشة قديم يعود إلى القرن الثالث الميلادي، وقد وجد أن حروف كلماتها
نادرًا ما تتشابه مع الحروف العربية، بل هي أقرب إلى الثمودية واللحيانية والنبطية واليونانية
والسريانية؛ لذلك سأقفز فوق الحديث عنها لأشير إلى الكتابة المنقوشة بحروف عربية بعيدًا عن
التفصيلات حول دقة الحرف أو تنقيطه أو تشكيله.
كان يظن أن النقش المحفوظ في القاهرة هو أقدم نقش بين أيدينا؛ لأنه مؤرخ في عام 31
هجرية، أي في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أن عثر خارج السور الشمالي
في المدينة المنورة على كتابة منقوشة أخرى تعود إلى غزوة الخندق في السنة الخامسة
للهجرة.
أما من حيث الكتابة على الورق أو الجلد أو غيره فهي ثلاث رسائل عثر على أصولها
الحقيقية وهي من الرسول (ص) إلى المقوقس في مصر، والمنذر بن ساوى، والنجاشي في
الحبشة. كما نشير إلى مرحلة النقط والشكل والإعجام حيث ينسب إلى الحجاج أنه أمر كّتابه أن
يضعوا للحروف المشتبهة مثل الباء والتاء والثاء والنون علامات تزينها، وقد ينسب إلى
غيره هذا الأمر.
والسؤال المطروح هو: هل عرف العرب الكتابة؟، وإلى أي مدى كانت منتشرة بين المسلمين؟
يقول الجاحظ: (( وكل شيء للعرب، فإنما هو بديهة وارتجال)) ....إلى أن يقول: ((وكانوا
أ  ميين لا يكتبون))، وإلى الأمر نفسه أشار ابن سعد في طبقاته، وابن عبد ربه في العقد الفريد
حيث يقول: إنه لم يكن أحد يكتب بالعربية حين جاء الإسلام إلا بضعة عشر نفرًا. وقد وصل
الأمر بابن قتيبة إلى تجهيل الصحابة أنفسهم رضي الله تعالى عنهم بالكتابة، ونعتهم
بالأمية. يقول ابن قتيبة بالحرف الواحد: ((لأنه أي عبد الله بن عمرو كان قارئًا للكتب
المتقدمة، ويكتب بالسريانية والعربية، وكان غيره من الصحابة أ  ميين، لا يكتب منهم إلا الواحد
والاثنين، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي)) ( 12 )، ولا ريب أن هذا القول من ابن قتيبة
افتئات على الحقيقة التاريخية، وتعميم لا سند له من الحق، ولو كان قد قال إن بعض الصحابة
كان أميًا لكان قوله سليمًا لا ريب فيه، ولو قال: إن أكثر الصحابة كان أ  ميا لقبلنا هذا القول
على ما فيه من تج  وز وتعميم. وهنا نذكر بأن كتب الطبقات تَعد من الصحابة عشرات بعد
عشرات كلهم كاتب ضابط لما يكتب، وعندما تتوفر في أمة عشرات بعد عشرات من الكتبة
الضابطين، فإنه يقف وراء ذلك أعداد كبيرة من الكتبة وإن كانوا من غير الضابطين، ناهيك
عما ذكره ابن فارس حين قرر معرفة العرب بعلوم اللغة وقواعدها وعروضها رادًا على من
يذهب إلى استحداث هذه العلوم بعد الإسلام بدهر( 13 )، لكننا لن نذهب طوي ً لا في هذا الاتجاه بل
يكفي أن نعرف أن كثيرًا من الكتب ذكرت أسماء الذين كتبوا لرسول الله (ص)، فقد جعلوهم
مراتب وقدروهم منازل؛ فكّتاب يكتبون بين يديه(ص) فيما يعرض من أموره وحوائجه،
وآخرون يكتبون بين الناس المداينات وسائر العقود والمعاملات، وآخرون يكتبون أموال
الصدقات، وآخرون يكتبون مغانم رسول الله(ص)،ومنهم من يكتبون إلى الملوك ويترجمونها إلى
الفارسية والرومية والقبطية والحبشية، وآخرون يكتبون الوحي، ويعقب المسعودي( 14 ) بعد أن
ينتهي من ذكر أسماء هؤلاء الكتاب واختصاصاتهم بقوله: ((وإنما ذكرنا من أسماء كتابه (ص)
من ثبت على كتابته واتصلت أيامه فيها، وطالت مدته، وص  حت الرواية على ذلك من أمره، دون
 م  ن كتب الكتاب والكتابين والثلاثة إذ كان لا يستحق بذلك أن يسمى كاتبًا ويضاف إلى جملة
كّتابه))
بعد هذه الجولة السريعة التي اقتضبت فيها أضعاف ما أثب ّ ت، ووقفت في محطات مضيئة من
تاريخ الكتابة، فإنني أعرض عليكم المصنفات المهمة في أبرز العلوم والفنون مشيرًا إلى
أصحابها كلما دعت الضرورة ذلك آخذًا بعين الاعتبار المؤلفين الذين توفاهم الله عام 215
هجرية فما قبل مجتهدًا في أن المؤلفات التي سأتناولها صنفت قبل نهاية القرن الثاني الهجري،
مهم ً لا كثيرًا من الكتب لأن أصحابها توفوا بعد عام 215 هجرية على الرغم من احتمال أنهم
صنفوا كتبهم قبل أفول شمس القرن الثاني الهجري.
1 الأنساب
كان من أوائل ما عنوا به من معارفهم العربية الخالصة أخبار آبائهم في الجاهلية وأنسابهم
وأشعارهم، ومن ثم كثر بينهم علماء الأنساب، وأصحاب الأخبار، ومن أشهرهم  د ْ غَفل بن حنظلة
السدوسي المتوفى عام 70 هجرية، وله مجالس عند معاوية د  ونت في كتاب له اسمه ((التضافر
.( والتناصر)) ( 15
ومن ذلك هشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى عام 204 هجرية وهو المكنى بابن
السائب الكلبي، كان نسابة كأبيه ابن السائب، وقد ترك تآليف عديدة تتصل بالأنساب منها كتاب
الجمهرة وهو المعروف بجمهرة أنساب العرب، ومنها المثالب، وبيوتات قريش، والكنى،
وبيوتات اليمن، كما أن له كتابًا في أنساب الخيل باسم ( نسب الخيل )
2 التاريخ والمغازي
بدأت منذ القرن الأول عملية تدوين مغازي الرسول (ص)، وهنا أشير إلى أن عمر بن
الخطاب (رض)هو واضع التقويم الهجري حتى غدا عنصرًا حيويًا في نشأة الفكرة التاريخية،
وعمودًا فِقْريًا للدراسات التاريخية.
ومن أقدم من كتب في هذا الصدد كعب الأحبار المتوفى عام 32 هجرية وكان من يهود اليمن
، وقد طبع له في القرن الماضي كتاب بمطبعة بولاق تحت عنوان ( في حديث ذي الكِ ْ فل )، ثم
نرى معاوية حين استقدم  عبيد بن َ شرِية الجرهمي اليمني ليحدثه
في مجالسه عن أخبار ملوك العرب الماضين، وأمر معاوية بعض غلمانه بكتابة ما كان يسرده
من تاريخهم، فتألف من ذلك كتاب ( أخبار الأمم الماضية ) وكان متداو ً لا في عصر المسعودي
16 )، وقد طبع في حيدر آباد تحت عنوان ( أخبار  عبيد بن َ شرِية الجرهمي في أخبار اليمن )
وأشعارها وأنسابها )
ومن نمط هذا الكتاب ( كتاب التيجان ) لوهب بن منبه المتوفى عام 114 هجرية وهو يتحدث
عن ملوك حمير والقرون الغابرة. ولوهب أيضًا كتاب ( المبتدأ في الأمم الخالية ) وكتاب (
قصص الأنبياء ) وهو موجود في مكتبة بلدية الإسكندرية( 17 ) وله كذلك ( أحاديث الأنبياء
والعباد ).
ونجد عروة بن الزبير المتوفى عام 94 هجرية وهو فقيه ومحدث مشهور وكان مؤسس
دراسة المغازي إذ كان أول من ألف كتابًا في المغازي، وكذلك فعل أبان بن عثمان بن عفان،
( وقد وصل منها مقتبسات أوردها الطبري والواقدي وابن كثير وغيرهم( 18
ونجد كذلك ال  زهر  ي محمد بن مسلم المتوفى عام 124 هجرية قد وضع كتابًا في المغازي
( مستخدمًا تعبير ( السيرة ) وقد أيد ذلك حاجي خليفة في كشف الظنون( 19
ولا بد من الإشارة إلى ما تركته لنا الأخبار عن عوانة بن الحكم المتوفى عام 147 هجرية
وعمرو بن العلاء المتوفى عام 154 هجرية، وحماد الراوية المتوفى عام 156 هجرية، وأبي
مخنف المتوفى عام 157 هجرية وسيف بن عمر المتوفى عام 180 هجرية.
3 الشعر والأدب
تنوعت أعمال الرواة في تدوينهم للشعر العربي وجمعهم لأشتاته، بعد أن تلقوه من أفواه
رواة القبائل ومن الأعراب في البوادي، بل كان الأعراب أنفسهم يفدون أحيانًا على الحواضر ؛
ليأخذ عنهم الرواة والعلماء: الشعر واللغة والأخبار والأيام.
وقد اتجه قسم من هؤلاء الرواة إلى جمع دواوين الشعراء، كل شاعر على حدة، ومنهم من
اتجه إلى جمع أشعار قبائل معينة، كل قبيلة في ديوان مستقل، ومنهم من اتجه إلى تصنيف ما
يسمى بكتب الاختيار.
وهنا سأقف عند ما يحدده البحث لي أي حتى نهاية القرن الثاني الهجري:
1 المفضليات: لعلّ أقدم مجموعة شعرية وصلتنا مما صنف في القرن الثاني الهجري
كتاب المفضليات لمصنفه المفضل بن محمد الضبي الراوية الكوفي المشهور المتوفى عام 168
هجرية والذي كان من أعلام عصره في العربية والشعر والأخبار.
للمفضليات منزلة كبرى في الأدب العربي، فهي إلى كونها أقدم مجموعة من نوعها في
الشعر العربي، تمتاز بميزات كثيرة، لعل أبرزها أنها لا تض م من الأشعار إلا ما كان قديمًا، فهي
تحتوي على 130 قصيدة لستة وستين شاعرًا عاشوا وماتوا في الجاهلية، وليس بينهم إلا عدد
قليل من المخضرمين والإسلاميين الأولين.
ومن ميزاتها أيضًا أن القصائد في هذه المجموعة قد أُثبتت بتمامها، ولم يعمد المفضل إلى
الإختيار والتفضيل بين أبيات القصيدة الواحدة، ومن أهم ما تمتاز به هذه المجموعة أن اسم
مؤلفها كان أبدًا موضع الاحترام، فلم يطعن عليه أحد من معاصريه، أو ممن جاء بعد في أمانته
وصدقه؛ على كثرة من طعن عليه من رواة الشعر في ذلك العصر، بل المعروف المشهور أن
.( المفضل كان من أوائل الذين تنبهوا، ونبهوا على بعض محاولات الرواة الآثمة( 20
2 نقائض جرير والفرزدق: جمعها وشرحها أبو عبيدة، معمر بن المثنى المتوفى عام
209 هجرية، واشتهر هذا الكتاب باسم كتاب النقائض، وهو يضم القصائد الهجائية والفخرية
.( التي نظمها ذانك الشاعران الأمويان، ورد كل منهما على خصمه( 21
وفي هذا المجال أجد من الضرورة بمكان أن أشير إلى كتاب ( رسالة الصحابة ) لابن المقفع
المتوفى عام 142 هجرية، وهو موجه إلى الخليفة المنصور محاو ً لا تقديم النصح له في مشاكل
( متعددة كالنظام القضائي ، والنظم الإدارية بأسلوب أدبي بليغ( 22
4 اللغة والأمثال:
اللغة نظام اجتماعي خاضع لتأثير الزمان والمكان، وكلما تعاقبت الأيام وجدنا فروقًا بين اللغة
التي يتكلمها الأقدمون، واللغة التي يتكلمها المعاصرون، ولاسيما الألفاظ والتراكيب، لأن اللغة
أيضًا كائن حي يخضع لعوامل النشوء والارتقاء،والتبدل والتطور، فتولد كلمات جديدة، وتموت
أخرى قديمة، و تحيا أساليب كانت مندثرة، وتضمحل أخرى كانت شائعة ذائعة. وهذا هو شأن
اللغة العربية، التي لا تخرج عن تلك القوانين التي تنتظم اللغات جميعًا.
وربما اختلفت اللغة العربية عن سائر اللغات الأخرى في عدة ظواهر برزت فيها أكثر من
غيرها كالمترادفات، والأضداد، والمجاز، ومثلثات الكلام، لارتباط هذه اللغة بحياة العرب
الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والعلمية إلى جانب تعدد اللهجات عندهم، تبعًا لاختلاف القبائل
العدنانية والقحطانية التي لم تكن على درجة واحدة من الفصاحة وإن كانت قريش أفصحها.
كما تجدر الإشارة إلى مرحلة تدوين ألفاظ اللغة العربية في رسائل متفرقة صغيرة محدودة
الموضوع مبنية على معنى من المعاني أو على حرف من الحروف، وقد ذابت كلها في المعاجم
الجامعة التي ألفت فيما بعد. وقد  و  صَلنا كثير من الرسائل التي تمثل هذه المرحلة، فلأبي زيد
الأنصاري صاحب كتاب النوادر الذي سأشير إليه لاحقًا عدد من الرسائل اللغوية نحو: كتاب
المطر، وكتاب اللبأ واللبن، كما أن لمعاصره الأصمعي المتوفى عام 216 هجرية وهو خارج
نطاق الدراسة رسائل كثيرة نحو: كتاب الإبل وكتاب الخيل وكتاب الشاء وكتاب أسماء
الوحوش وصفاتها وكتاب خلق الإنسان وكتاب النبات والشجر. وهناك كتاب الصفات للنضر بن
شميل المتوفى عام 204 هجرية وكتاب الزرع لأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى عام 210
هجرية.
وهناك كتب أخرى جمعت فيها الألفاظ تبعًا لأحد حروف أصولها؛فيقال كتاب الخاء وكتاب
الجيم وهكذا، ومن أشهر ما وصلنا كتاب الهمز لأبي زيد الأنصاري أيضًا.
أبدأ أو ً لا بكتب النوادر ؛ لأنها تقوم على جمع الألفاظ الغريبة والنادرة ومعرفة معناها
ومواضع استعمالها وقد صنع أبو عمرو بن العلاء المتوفى عام 154 هجرية، والكسائي المتوفى
عام 189 هجرية، وأبو محمد اليزيدي المتوفى عام 202 هجرية، وأبو عمرو الشيباني المتوفى
عام 205 هجرية، والفراء المتوفى عام 207 هجرية، وأبو زيد الأنصاري المتوفى عام
( 215 هجرية كتبًا تحمل اسم ( النوادر)، وقد ذكرهم ابن النديم في الفهرست( 23
كتب الغريبين: والغريبان: غريب القرآن، وغريب الحديث.وكتب الغريبين: هي الكتب التي
تعنى بجمع الألفاظ التي تبدو غريبة على القارئ في القرآن الكريم أو الحديث الشريف، وأبرز
هذه الكتب غريب القرآن لمؤرج السدوسي المتوفى عام 195 هجرية، وغريب الحديث لقطرب
.( المتوفى عام 206 هجرية، وأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى عام 210 ه( 24
كتب الأضداد : وهي التي تعنى بكلمات تستعمل كل منها بمعنيين متضادين، مثل ( باع ) يكون
على المعنى المعروف عند الناس، ويكون بمعنى ابتاع واشترى، ومثل ( ال  ضعف ) فيكون
ضعف الشيء مثله، ويكون مثليه، وكذلك ( الغريم )الذي له الدين، والذي عليه الدين أيضًا، أي
الدائن والمدين، ومن ذلك ( المأتم ) ويطلق على النساء المجتمعات في الحزن أو في الفرح.
والسليم على السالم الصحيح الجسم وعلى الملدوغ الذي نهشته الحية تفاؤ ً لا بسلامته من
اللدغة.
وأصحاب هذه الفئة من الكتب هم من المتأخرين، ولعل أقدمهم الأصمعي المتوفى عام
( 216 ه( 25
كتب اللحن: وهي التي تعنى بتقويم اللسان بعد أن سرى الفساد إلى سلائق العرب، ولغتهم
التي يتكلمونها بعد اختلاطهم بالأعاجم منذ أوائل العصر الإسلامي.
في البدء اقتصر تصحيح اللحن على مجالس العلماء والأدباء وما شاكلها بصورة شفهية.
ويعد كتاب ( ما تلحن فيه العوام ) للكسائي المتوفى عام 189 ه أقدم ما وصل إلينا من الكتب
في هذا الموضوع، وتبعته في مثل هذه التسمية تقريبًا كتب كثيرة مثل ( ما تلحن فيه العامة )
.( لأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى عام 208 ه( 26
وهناك كتب محدودة الموضوع بنيت على ظاهرة لغوية، أو على معنى من المعاني ، وهي
كثيرة جدًا لعل أبرزها : كتب الحيوان والنبات التي أشرت إليها في مقدمة حديثي عن كتب
اللغة. 3 2
وهناك مثلثات الكلام، ذلك أن في اللغة العربية ألفاظًا وردت كل منها على ثلاث حركات في
الحرف الأول منها، بمعان مختلفة، نحو: ال َ غمر والغِمر وال ُ غمر( 27 )، وال َ كلام والكِلام
وال ُ كلام( 28 )، وكان قطرب النحوي المتوفى عام 206 ه أول من جمع المثلث في اللغة في كتيب
( صغير لكن له فضيل َ ة السبق( 29
صنف آخر من التصانيف صنعها قطرب المتوفى عام 206 ه والفراء المتوفى عام 207 ه
وأبو زيد الأنصاري المتوفى عام 215 ه وهي ما يسمى بكتب ( َفعلَ و أَفْ علَ ) حيث تعنى
بتصنيف الأفعال الثلاثية المجردة التي وزنها َفعلَ والتي تزاد الهمزة في أولها فيصبح وزنها
أَفْعلَ وعندئذ إما أن يختلف معناها، نحو: َ ش  رَقت الشمس، إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت،
و  صَفت، وإما أن يبقى كما هو، نحو: بلَّ من مرضه، وأَبلَّ إذا برأَ و ُ شفِ  ي.
وبعضهم جعل الكلام على َف  عَلت وأَفْ  عَلت في فصول خاصة ضمن أبحاث كتبهم مثل
( سيبويه المتوفى عام 180 ه ( 30
5 المعجمات
وهي نوعان؛ معاجم المعاني ومعاجم الألفاظ ، وقد تمثلت معاجم المعاني في رسائل صغيرة
يتناول كل منها موضوعًا واحدًا أو أكثر، مثل: الحيوان ، والنبات، والمطر، وخلق الإنسان،
ونذكر منها كتاب السلاح للنضر بن شميل المتوفى عام 204 ه، والزرع لأبي عبيدة المتوفى
عام 210 ه ، والشجر لأبي زيد الأنصاري المتوفى عام 215 ه ، وكنت قد أشرت إلى ذلك في
.( مجال اللغة بالتفصيل( 31
أما النوع الثاني من معاجم الألفاظ فهو يبرز عند رائد هذه الطريقة الخليل بن أحمد الفراهيدي
المتوفى عام 175 ه الذي أعرض عن الترتيب الهجائي لأنه مبني أص ً لا على الرسم والكتابة في
حين أن اللغة قوامها النطق والأداء المبنيان على الصوت وخروج الكلام بحروفه من داخل الفم.
وكانت الخطوة التالية لدى الخليل حصر مفردات اللغة العربية التي لم يجمعها جامع، ولا
استقصاها أحد من قبل، فلجأ إلى فكرة رياضية فذة تقوم على اعتماد مبدأ التقاليب، وهو توليد
كلمة من كلمة بتغيير مواضع الحروف فيها، وهذا ما يعرف بالاشتقاق الكبير.فالأصل الثنائي
ج ر تخرج منه صورتان هما ( جر ) و ( رج )، والأصل الثلاثي يكون منه عادة ستة تقاليب،
فتقاليب ب ح ر هي بحر برح حبر حرب ربح رحب ، والأصل الرباعي مثل عبقر يخرج منه
أربع وعشرون صورة، أما الخماسي سفرجل ففيه مئة وعشرون صورة. ولا شيء من الأصول
فوق الخماسي، وبهذه الطريقة الرياضية استطاع الخليل أن يتوصل إلى حصر ألفاظ اللغة العربية
من الناحية النظرية باثني عشر مليون كلمة تقريبًا؛ لكنها ليست كلها مستعملة عند العرب فهناك
تقاليب كثيرة مهملة، ولاسيما في الأصلين :الرباعي والخماسي.فكان الخليل يثبت في معجمه ما
( كان مستعم ً لا، ويغفل ما كان مهم ً لا في الاستعمال( 32
وعلى الرغم من تشكيك بعضهم في نسبة معجم العين للخليل فإنه يبقى رائد المعاجم العربية
والمنهل الثر الذي نهلت منه المعاجم التي ُاّلفت بعده، كما اختصره فيما بعد النضر بن شميل
.( المتوفى عام 203 ه صاحب ( المدخل إلى كتاب العين )( 33
ثم جاء كتاب ( الجيم )لأبي عمرو الشيباني المتوفى عام 206 ه وس  مي معجمه ( الجيم )
ومعناه الديباج تشبيهًا له بالديباج لحسنه، وهو يراعي الحرف الأول للكلمة ولهذا نجد مواد
حرف الهمزة تتوالى هكذا: أوق، ألب، أفق، أزح، أنف، أرب، أخذ، وهكذا، إضافة إلى أنه يهتم
.( بالألفاظ الغريبة في شعر شعراء ثمانين قبيلة عربية( 34
6 النحو
بعد البدايات النحوية التي جاءت على شكل ملحوظات نقلها إلينا الرواة يبرز لنا اسم عيسى
بن عمر المتوفى عام 149 ه الذي ترك كتابين هما ( الجامع ) و ( الكامل ) وضمنهما جلّ
الأبواب النحوية التي اتضحت أصولها في مطلع القرن الثاني الهجري، وفي ذلك يقول الخليل بن
أحمد :
ذهب النحو جميعًا كّله غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال، وهذا جامع فهما للناس شمس وقمر
ومما لا شك فيه أن عيسى بن عمر تع  رض في كتابيه لكثير من الأبواب النحوية، إن لم يكن
معظمها( 35 )، وهذا يظهر جليًا من خلال كتاب سيبويه حيث يشير كثيرًا إلى عيسى بن عمر
وآرائه النحوية.
بعد ذلك نرى يونس بن حبيب المتوفى عام 183 ه حيث كان له عدد من التصانيف ذكر منها
المؤرخون سبعة هي: معاني القرآن الكبير، ومعاني القرآن الصغير، وكتاب النوادر الكبير،
وكتاب النوادر الصغير،وذكروا له كتابًا في اللغات، وآخر في الأمثال، وآخر في القياس في
النحو، وتظهر هذه المعالجات النحوية، والقراءات القرآنية بما تحويه من آراء؛ تظهر جلي ً ة
واضح ً ة من خلال ما يورده سيبويه وغيره عن يونس بن حبيب.
ثم يظهر لنا كتاب سيبويه المتوفى عام 180 ه ، وهو أعظم ما وصلنا من الكتب الأصيلة في
النحو والصرف، وأكثرها شهرة،وقد تلقاه العلماء بالقبول والرضى منذ أن ألفه صاحبه وهو في
حداثة الشباب، وعجبوا لظهوره بصورته الرائعة مكتمل الجوانب.
لم تكن تكن مهمة سيبويه في كتابه الجمع وحسب، بل كان ذا شخصية واضحة؛ فهو يستنبط
كثيرًا من القواعد بنفسه اعتمادًا على سماعه من العرب.
ومن ميزات الكتاب عنايته بالشواهد لتثبيت الأحكام؛ وقد استشهد بالقرآن الكريم والنثر
والشعر إضافة إلى اهتمامه بأحكام القراءات والبلاغة وفقه اللغة واللهجات وقضايا تتصل بالشعر
( وصناعته( 36
7 الفقه وأصوله، والتفسير
إن عناية العرب في هذا العصر بتدوين أخبارهم الجاهلية وأنسابهم، وأشعارهم لا تقاس إلى
عنايتهم بتدوين كل ما اتصل بدينهم الحنيف، فقد تأسست في كل بلدة إسلامية مدرسة دينية
عنيت بتفسير الذكر الحكيم، ورواية الحديث الشريف،وكان الكثيرون يحرصون على تدوين ما
يسمعونه. وقد اشتهر ابن عباس المتوفى عام 68 ه في مكة بما كان يحاضر في تفسير القرآن
الكريم، وحمل عنه تفسيره نفر من التابعين، يقول ابن حنبل " بمصر صحيفة في التفسير عن
ابن عباس لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا ما كان كثيرًا( 37 )، ذلك ما جمعه فيما بعد
الفيروزأبادي وسماه تنوير المقباس في تفسير ابن عباس، ولا نكاد نصل إلى عصر عمر بن عبد
العزيز حتى نراه يأمر بتدوين الحديث، ثم نرى اهتمام الزهري المتوفى عام 124 ه ، ويذكر
جولدتسيهر أن عروة بن الزبير كانت له كتب فقه احترقت يوم ال  ح  رة،كما يشير إلى وجود
مختصر في الفقه اسمه ( مجموعة زيد بن علي ) في المكتبة الأمبروزية بميلانو.
ننتقل بعد ذلك إلى الإمام مالك المتوفى عام 179 ه، ( صاحب المدونة الكبرى ) التي دونها
عنه تلميذه سحنون ( عبد السلام بن سعيد التنوخي ) المتوفى عام 240 ه، والمدونة من
.( المؤلفات الأمهات في الفقه المالكي، وقد جمعت جميع أبواب الفقه وفروعه( 38
وللإمام مالك أيضًا ( الموطأ ) وهو كتاب في الفقه المالكي وفي الحديث،وهو من أوائل الكتب
التي صنفت الحديث على أبواب الفقه، ويعد بين كتب الحديث في مرتبة الصحاح، وقال فيه الإمام
.( الشافعي: " ما ظهر على الأرض كتاب بعد كتاب الله أص  ح من موطأ مالك "( 39
ثم يطل علينا كتاب ( الخراج ) لأبي يوسف، يعقوب بن إبراهيم المتوفى عام 182 ه ،وهو
أحد أبرز علماء الفقه الإسلامي، وله كتاب آخر تحت عنوان ( أدب القاضي ) لا يزال
.( مخطوطًا( 40
ثم نصل إلى الإمام الشافعي المتوفى عام 204 ه

الثلاثاء، 15 ديسمبر 2009

قصة قصيرة: ليلة القبض على أسعد

ليلة القبض على أسعد
أيّار 2008 د/ أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في ساحة مبنى قديم متهالك جُمِّع صبيةٌ مراهقون من أرباب السوابق؛ لأخذ فسحة من التنفّس، أو الراحة، وهي وقت لا يتعدّى نصف الساعة يمنحه المساعد أبو أحمد لكلّ المجمَّعِين عنده في مدرسة رعاية الأحداث، عدا المذنِبين الذين يعصُون أوامر الإدارة، أو يرتكبون مخالفات مهما كان نوعها، إذ يُخْضِع أبو أحمد هؤلاءِ لنظام خاصٍّ من الفسحة لا يخلو من فنون الضغط النفسيّ والاضطهاد.
يُدخِل أبو أحمدَ نفسه داخل كرسي من الخيزران له مَسْندان جانبيّان، يرمي زنديه الضخمتين المترهلتين عليهما، ويتّخذ مكاناً قصيّاً في غرفته في "العلّية"؛ ليكون مشرفاً على باحة المدرسة، ممسكاً بيده عصا اعتاد أن يلوّح بها على الدوام، مستخدماً صوته الذي يبالغ في تخشينه؛ ليزرعَ الرهبة في النفوس، وليضبطَ هؤلاءِ القرودَ الذين شيّبوه قبل الأوان.
كان لأبي أحمدَ فريقُ عمل من رجال الشرطة مهمتهم ضبط الأمن في المدرسة، بالإضافة إلى الأكل، وأحاديث الثرثرة في سائر الأوقات، كلّ منهم يشكو همومه للآخرين، متذمراً من غلاء المعيشة، منتظراً زيادة الرواتب، وكروشهم تكبر وتكبر...؛ لأنهم لا يتورّعون عن أكل كلّ شيء يُتاح لهم إذا كان في السرّ.
تناثر الأولاد في تلك الباحة تناثر سِبحة انفرط عِقدها من عل فأخذت حبّاتها تقفز صاعدة ونازلة إلى أن تنزوي في زاوية من زوايا هذه الباحة المحدودة، تجمّع المراهقون في إحدى الزوايا حليقي الرؤوس، يجيدون السكوت والهمس ولغة العيون، لاسيّما إذا كان أبو أحمد أو أحدُ أعوانه قد سقط نظرُه عليهم. ماهر أكبرهم سنّاً وأضألهم جسماً وأنحلهم عوداً، وهو ماهر فعلاً في دخول البيوت من غير أبوابها، يقوى على حمل الأشياء إذا كانت خفيفة ثمينة ويجيد لعبة الكرّ والفرّ، من سطح إلى سطح أو من شارع إلى شرفة، بل من جيب إلى محفظة، ولا يُعجِزه باب مهما كان حصيناً، ولا خزنة مهما بدا أنّها مستعصية، لكنَّه سقط في الشرك في إحدى سرقاته لمّا وقع على الأرض فالتقطه بعض السيارة، وأشبعوه ضرباً حتّى وجد نفسه في مدرسة رعاية الأحداث هذه.
وكذلك فاضل فهو لا يحمل من اسمه نصيباً أبداً، فقد دفع به التفكّك الأسريّ إلى النظر لما هو فوق سنّه، فامتهن التردّد على أماكن الليل من صغره، يغرّر برواد الحانات حيناً ويستعطفهم حيناً آخر؛ ليحصل على مصروفه الذي لم يجد أهلاً يوفّرونه له، فلجأ إلى التعلّم الذاتي، وكثيراً ما كان يحمل حقائب ثياب بنات الليل، وقد يذهب معهنّ إلى البيت إتماماً لعمله إلى أن أوقعه حظّه العاثر عندما دوهم منزل إحداهنّ، وألقي القبض على من فيه ورُمي في مدرسة التهذيب والإصلاح هذه.
في ليلة باردة ممطرة عاد المساعد أبو أحمد بعد منتصف الليل إلى مدرسة الأحداث، وقام بجولة في أنحائها على عجل، وتفقّد بما تبقّى من روح في بطاريات كشّافه الجدرانَ الخلفية للمدرسة وهي جدران تبعد مترين تقريباً عن نوافذ غرف نوم الأحداث؛ ليجد جسماً ممدّداً بين النافذة والجدار العالي، فرك عينيه ثانية وثالثة، ومسح زجاج الكشّاف من المطر بطرف معطفه السميك وعبث بالبطاريات يحرّكها على عجل، وسلّط بصيص ضوء الكشّاف؛ ليكتشف أنّ الممدّد من النافذة إلى الجدار هو باب غرفة نوم القرود، وبلمح البصر نسي وزنه وبدانته، وقفز الدرجات التي توصله إلى الطابق العلويّ قفزاً غير معهود منذ أن كان في دورة أغرار الشرطة...يا للهول لقد فكّوا إحدى فُرْضَتَيْ
[1] باب غرفتهم الطويل، وهذا شأن أبواب المباني القديمة كلّها، ومدّوه بين الجدار والنافذة، وقالوا لرفاقهم أن يعبروا.
ليلة طويلة قضاها أبو أحمد مع بعض عناصره المناوبين إلى أن استُدعِي محقّقون آخرون يستجوبون الأحداث حيث خلصت التحقيقات إلى أنّ الهاربين ثلاثة: ماهر، وهو البارع في فنون الخفّة، ومستلزماتها وفاضل الذي أدمن مصاحبة بنات الهوى، يقضي مصالحهنّ دون أن يقضيْن له مصالحه، ومعهم أسعد، وهو فتى قليل الكلام، بل قليل القدرة على الكلام، فقد ساقته الظروف إلى مكان لم يألفه من قبلُ، إذ كانت معاشرته لأولاد السوء في حارته ـ وهو الطيّب إلى حدّ السذاجة ـ سبباً جعل الأولاد يجرّون رِجله معهم مدّعين بأنّه كان معهم وقت الدخول إلى إدارة مدرسة حيّهم ليلاً عن طريق الكسر، والخلع؛ لسرقة الأسئلة وبيعها، فوجد نفسه في أحضان أولاد سوء متمرسين منذ الصغر في أمور لم يرها مع أولاد حارته السيّئين.
خطّط المراهقون الثلاثة لهذا الهروب الكبير منذ مدّة حيث كانوا يتحدّثون باستمرار عن رغبتهم في الهرب من المدرسة فلكلّ منهم دوافعه التي شبّ عليها إلاّ أسعد فلم يفصح يوماً عما يختلج في نفسه، لقد حضّر كلّ منهم أغراضه وحاجياته خلسة، ولم ينس أسعد صرّته الصغيرة التي وضع فيها بعض الفاكهة التي كان يحلو له أن يخبّئها على الدوام.
انتشرت عيون الأمن في كلّ مكان، لاسيما في المنطقة القريبة من المدرسة، نبشت العيون الساهرة كلّ مراتع الليل، وأماكن الازدحام وكلّ الزوايا المعتمة الرطبة في جسد المدينة الكبيرة بحثاً عن المراهقين الثلاثة، مستندين إلى إفادات بعض زملائهم التي أشارت إلى أنهم يتردّدون إلى مواطن محدّدة موبوءة، واضعين في اعتباراتهم احتمال تفرّقهم عن بعضهم بالإضافة إلى قدرتهم على التخفّي والاختباء والهرب.
عُرضت صورهم على كثير من أصحاب المحالّ التجارية، والمقاهي والأماكن التي يعتقد أنهم يأنسون لها. وجاءتهم إشارة من أحد عيونهم أنّ واحداً من هؤلاء المراهقين يتردّد باستمرار على أحد المباني القديمة، بل أحد البيوت فيها؛ بيتٍ لا جلبة فيه ولا ساكنين. روقِب البيت عن كثب طوال اليوم فلم يجدِ العسس فيه حركة ولا بركة... إلى أن خيّم الظلام في تلك الليلة الشتوية القاسية، وعيون من هم في خدمة الشعب متسمّرة تراقب باب البناية الحديديّ الكبير إلى أن دلف من بعيد مراهق رسم الضوء المنبعث من عمود الكهرباء في زاوية الشارع شبحه على بركة الماء في الأرض، وانسلّ مسرعاً دافعاً باب البناية بيده مصدراً صوتاً يضفي على العتمة رهبة وخوفاً، ثوانٍ والمراهق داخل البيت الذي لاحركة فيه على مدار الساعة يغلق خلفه مزلاج الباب مطمئناً إلى أنه لا أحد يتبعه.
بإيماءات وإشارات ومصطلحات تنادت عناصر الأمن يصحبهم أبو أحمد لتأتي الأوامر باقتحام الشِّقَّة قبل فوات الأوان مع أخذ الحيطة والحذر من هذا المراهق الذي قد يكون مسلحاً فيؤذي أحد العناصر أو يؤذي نفسه فتنقطعَ خيوط بقية العصابة، تسلّقوا درج العمارة المعتم، منتشرين على مفاصله مستعدّين لكلّ طارئ، واقترب أبو أحمد من باب الشِّقَّة يسترق السمع فتهادت إلى مسمعه همسات وآهات وكلمات وتمتمات لم يستطع أن يفكّ رموزها لكنّه بفطنته التي اكتسبها وخبرته في ملاحقة المجرمين وشذاذ الآفاق تيقن أنه وضع يده على أفراد المجموعة كاملين، ويكون بذلك قد كفّر عن تقصيره في حفظ أمن المدرسة أمام المسؤولين، ومن يدري ربّما يعلّقون على صدره وساماً مكافأة له على دهائه وسرعة تحركه...صور متلاحقة وأحلام دغدغت خياله جعلته يعطي الأوامر بكسر باب البيت، ركلةٌ واحدة جعلت الباب يترنح تحت أقدام عناصر الاقتحام؛ ليجدوا أسعداً جاثياً على ركبة ونصف يفكّ صرّته؛ ليطعم بعض ما خبّأه فيها لأمّه المقعدة.

[1] الفُرْضَة : ج فُرَض و فِراض وهي الخشبة التي يدور عليها الباب

قصة قصيرة: شهر العسل

شهر العسل
20/6/2008 د/أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد رحلة طويلة ماتعة، من شاطئ المتوسط الشرقيّ إلى الطرف الشماليّ الغربيّ منه حطّت بنا عصا الترحال في مرسيليا، المدينة الغافية في أحضان الطبيعة الساحرة التي تحيط بها، المستلقية على مياه البحر لتداعب بقدميها أمواجه المتلاحقة المتراقصة، توجّهت إلى فندق راق، لي عهد سابق به، أُخذت الحقائب منّا إلى غرفة محجوزة منذ مدّة، مطلّة على أبرز ساحات المدينة، يحيط بها الوسط التجاري للمدينة، لا سيما شركات الملاحة البحرية.
استرحنا قليلاً من وعثاء السفر، ثمّ نزلنا إلى الشركة التي تتكفّل بنقلنا وسيارتنا إلى الضفّة الأخرى من المتوسط إلى الجزائر، دقائق جاء بعدها دورنا لنجلس قبالة الموظف المختصّ؛ ليحجز لنا في الباخرة غرفة مناسبة لعروسين في شهر العسل، ومعنا في الوقت نفسه سيارتُنا الخاصّة، دقّق الموظّف في أوراق السيارة وبادرني قائلاً:
ـ لا مشكلة، فالغرفة الأنيقة بانتظاركم لكنّ أماكن السيارات في الباخرة ممتلئة.
ـ وما العمل في هذه الحالة؟
ـ نترك السيارة عندنا، ثمّ نرسلها لكما في باخرة أخرى بعد ثلاثة أيّام.
ودون تفكير، لأنني لا أملك البديل أجبته:
ـ لا بأس سيّدي، فليكن الأمر كما هو متوفّر.
ـ لكنّ هذا سيكلّفك مبلغاً إضافيّاً مقابل مبيت السيارة عندنا.
أعدت حساباتي بسرعة، وأدركت أن المبلغ الإضافي لا يثقل كاهل ميزانيتنا، وقلت له:
ـ حسناً سيدي، أتمم الإجراءات، واحجز لنا.
دقائق معدودة، ثمّ قال لي:
ـ المبلغ الإجمالي لكما وللسيارة هو ثلاثة آلاف فرنك فرنسيّ.
بلعت ريقي عدّة مرات، وقلت له:
ولكنك قلت لي قبل مدّة بأن التكلفة ألفا فرنك بالضبط، فما الذي جرى لتغيّر المبلغ.
ـ لقد ارتفعت أجور النقل قبل شهر يا سيّدي، وأنت لم تحجز آنذاك، بل سألت عن
الأجور فقط.
ـ ولكنني لا أملك سوى ألفي فرنك.
ـ هذه مشكلتك، كلّ ما أستطيع تقديمه هو إمهالك لتثبيت الحجز حتى الثامنة مساء؛
أي بعد ثلاث ساعات، لأنّك تعرف أن الباخرة ستبحر في الثامنة من صباح الغد.
شكرته بعد أن استبدلت بغرفتي المحجوزة في رحم الباخرة كرسيين بحريين على ظهرها ـ وهو أرخص درجات السفر ـ ...خرجت مع عروسي، لتعود بي الذاكرة إلى ثلاثة أشهر سابقة، لمّا مررت بموظف الشركة وفهمت منه الأسعار وسجلّتها...وحسبت حساباتي جيدا وفق خبرتي آنذاك، وسافرت لقضاء إجازتي بين أهلي وأصحابي لأختمها بالزواج...ثمّ أخذت طريق العودة عبر تركيا أنفّذ ما قمت بتخطيطه بكل دقّة...مررت باستنبول متنقلاً بين آثارها ومتاحفها متبضّعاً بعض الأغراض والألبسة من بينها "بنطلونٌ" له جيوب مخفيّة تقيني شرّ السارقين في تركيا، تابعت طريقي غرباً نحو فرنسا، ولم أنس أن أيمّم شمال؛ لأزور كثيراً من الدول والبلدان مستمتعاً بشهر العسل، منفقاً الكثير وفق الخطة الموضوعة بدقّة كما كنت أعتقد.
خطّطت لأصل إلى مرسيليا في آخر عطلتي الصيفية بحيث يفيض معي أكثر من ألف فرنك فرنسي وهو مبلغ ممتاز آنذاك، مدرِجاً في خطتي النومَ في فندق راق حجزته مسبقاً، والأكلَ في مطاعم مناسبة، وغيرَ ذلك من الأمور التي تتناسب مع متطلبات شهر العسل.
أفقت من ذكرياتي الجميلة إلى واقعي المرير في بلد أنا فيه غريب الوجه واليد، لا اللسان، تداولت الأمر مع شريكتي، وقرّرنا أن نتناسى أننا في شهر العسل...حجز الفندق الراقي لا رجعة فيه؛ لأنه محجوز مسبّقاً، الأكل يمكن أن يقتصر على بعض "الساندوتشات" لا سيما أن الباخرة ستمخر عباب البحر في صباح اليوم التالي، وهذا يوفّر علينا كثيراً من المصروفات، وخلاصة القول أننا محتاجان إلى ألف فرنك لنقف على قدمينا، ونحن في بلد غريب، تذكرت أهلي وأصحابي وعشيرتي بكل ما يحملونه من نخوة وشهامة لا توقعني في مثل هذا الموقف الذي لا أحسد عليه، ألف فرنك دونه إهدار كرامة أو الوقوع في مأزق، أو موقف لا أدري أبعاده.
من بعيد لمحت علماً لبنانياً كبيراً يزيّن لافتة وكالة بحريّة، شعرت بأنّ بصيص أمل قد ظهر لي وأنا في سباق مع الزمن، وموظف الشركة التي ستنقلني ينتظرني...دخلنا الوكالة باعتزاز...عرضت على الأخ اللبناني أن يشتري بألف فرنك مسجلة(وهي شيء نفيس آنذاك) وما يراه مناسباً من خاتم أو اثنين أو أسوارٍ، المهم ألاّ يغبن أحدنا الآخر...يبدو أنه توجس خيفة من شابّ و شابة يعرضان هذا العرض فاعتذر بأدب وطلب إمهاله إلى اليوم التالي مع بقاء الأغراض بحوزته، وهذا أمر غير ممكن مع من يسابق الزمن...ازداد الأمر تعقيداً مع كلّ دقيقة أخسرها لأن عدم سفري في صباح اليوم التالي سيفاقم الوضع وسأحتاج إلى انتظار باخرة أخرى وما يتبع ذلك من مصاريف كبيرة، فإذا كنت عاجزاً عن تدبير ألف فرنك وأنا أملك مسجلة وكاميرا وبعض القطع الذهبية فكيف سأحصل على مبالغ أكبر...كنت في مأزق كبير، وامتحان عسير، لا بدّ أن أخرج منه لكنني لا أعرف الثمن الذي سيُدفع مقابل ذلك.
أوصلت شريكتي إلى الفندق لأبدأ رحلة البحث عن حلّ في مدينة لا شفيع لي فيها ولا عارف، أحمل على كتفي مسجلة، وفي جيبي بعض القطع الذهبية التي سأضحّي بها جميعها في سبيل خروجي من هذه الورطة، وبدأت رحلة البحث عن حلّ أقفز الشوارع قفزاً لأنني أسابق الزمن تماماً كما أسابق السراب، بلا أمل أو هدف.
رأيت من بعيد مجموعة شبان سُمْرِ الملامح فخطر في بالي أبناء جلدتي أستدرّ عطفهم، وأطلعهم على مشكلتي بكل صدق ولا شكّ في أنهم أصحاب حميّة مهما كان البلد الذي ينتمون إليه...اقتربت، ثمّ اقتربت أكثر أسترق السمع، وإذ بهم يرطنون بكلمات لا أميزها آنذاك وهي اللغة الأورديّة، فابتعدت مكسور الخاطر مهيض الجناح وعقارب الساعة تسير بسرعة كأنني في مباراة حاسمة فريقي خاسر بفارق ضئيل، وفجأة لمحت وجوها سمراء أخرى على الطرف الآخر من الشارع، اجتزته مخالفاً كلّ قواعد المرور المحترمة في تلك البلاد...شنّفت أذنيّ جيداً كي لا أصابَ بانتكاسة أخرى فيضيعَ وقتي المتسارع هباءً...سرت على بعد خطوات منهم مطبّقاً كل شروط التمركز التي أعرفها ذلك بأن أرى ولا أُرى وأن أستوعب ما أرى...تهادى إلى مسمعي أجمل كلمات سمعتها في حياتي هي فوق الغزل، والعشق، والمناجاة...سمعت: "آكو...و ماكو" يالله... أبناء الرافدين، أحباؤنا، لا شكّ قضيّتي محلولة على أعتاب نجدتهم المعهودة...اقتربت، فسلمت، فعرضت القضية عليهم، تداولوا الأمر فيما بينهم، فوافقوا واطمأنّوا بعد أن عرفوا أنني سأكون على ظهر باخرتهم نفسِها أخذت منهم ألف فرنك على سبيل الإقراض وأعطيتهم ما يضمن حقهم وتبادلنا العنوانات في الجزائر لنعيد لكلّ ذي حقّ حقّه.
انطلقت إلى الشركة لأتمّم الإجراءات والحجز وأرتب أمور إنفاقي لأخرج في النهاية (راس بعبّ)، ولأقضي ليلة هانئة بعد امتحان عسير... أبحرت الباخرة صباح اليوم التالي لأقضي على سطحها أربعاً وعشرين ساعة أنستني الراحة النفسية فيها متاعب الجلوس في كرسي على ظهر باخرة، وأكل سندوتشات من أرخص الأصناف، لأنني لا أملك شيئاً...من بعيد لوحت لنا الجزائر العاصمة بكلتا يديها مرحبة... نزلت وشريكتي واستلمنا أغراضنا، ووقفنا في صفّ التفتيش الطويل...وصل دوري للتفتيش، استلمني موظف لبق فتّش حقائبنا، وملابسي التي ألبسها، وأخرج من أحد جيوب بنطلوني الخفيّة قطعتين ورقيتين رقيقتين وسألني:هل عندك غيرُ هذه الألف وخمسمائة فرنك لتصرّح بها عند دخولك؟

قصة قصيرة: شجرة التوت

شجرة التوت
23ـ3ـ2009 د / أمان الدين محمد حتحات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جلس الحاج "أبو كريم" خلف باب سطح منزله الخشبيّ المتشقّق المترنّح من وطأة السنين، ومن تعاقب الأنواء عليه تماماً كحال صاحبه أبي كريم الذي عاش الحياة بمرارتها حتّى اضمحلّت أيامه السعيدة، وتقطّعت الحبال بينه وبين الفرح منذ زمن طويل، فلم يبق له؛ ليسليه في الهزيع الأخير من عمره إلاّ تلك الحمامات بنّية اللون "حمام مكّة" كما يسمّونها، فهي تتشابه وتُستنسخ، على النقيض من الحمام الذي يُرَبّى على أسطح المنازل، وله أسماؤه، وأشكاله، وأثمانه، كما أنّ له مشاكله الكثيرة.
بدا أبو كريم متوتّراً وهو يقعد القرفصاء، فهو على موعد للّقاء مع الحمامات التي لم يسبق له أن تعرّفها، ولم يزقّها، ولم يرْعَها، حتّى إنّه لم يشتر واحدة منها بل ساقتها الأقدار إلى سطح منزله المتواضع، متغنّية بقول الشاعر:
يسقط الطير حيث ينتثر الحَـــــــــبّ وتُغشى منازلُ الكرماء
تكوّر أبو كريم وهو يلتفّ بمعطفه القديم، فأوصاله لا تقوى على مقاومة برد "المربعينيّة"، وهو صاحب الجسم النحيل الذي لا يجد البردُ فيه ما يحول دون التغلغل إلى نِقْيِ عظامه التي تفخّرت منذ زمن ليس بقريب، ومع ذلك ظلّ على عهده مع الحمامات كان قد قطعه لها على الوفاء الدائم المستمرّ بأن يقدّم لها خبزاً يابساً، وفضلات طعام من رز، أو برغل، أو غير ذلك مما تجود به مائدة طعامه المتواضعة، فلم ينقطع حرصه على استقبال الحمام على الرغم من كثرتها التي تتنامى شهراً بعد شهر من خلال كمّ ما تستهلكه من مائدته العامرة على الدوام.
مازال أبو كريم ينتظر "كشّة الحمام" لعلّها "تُهدّي"؛ لترتاح وتأكل وتشرب... يبدو أنها تأخرت، أو شغلها شاغل (قال في سرّه)، فالخوف الأكبر الذي راوده هو حصولها على مكان أكثر غذاء من مائدته، عندها ستذهب دون عودة، وكذلك إذا نالت منها أذيّةُ أولاد الحارة الذين أدمنوا محاولة اصطيادها بوسائلهم المتعدّدة، على الرغم من حرمانية صيدها كما يعتقد الجميع.
تثاقل جفناه واسترخيا على عينين جاحظتين تقبعان فوق وجهٍ حفرت معاول الأيّام تجاعيده، فغدا شاحباً يحكي تاريخاً طويلاً يخفي أكثر ممّا يظهر، قفز به شريط الذكريات إلى عَقْد من الزمن يوم أطلت برأسها نبتة صغيرة بمحاذاة جدار بيته، سرعان ما كشفت اللثام عن مشروع شجرة توت لم يدر أحد كيف زُرعت؟، ولا كيف ترعرعت، واستوى عودها؟ الأمر الذي شجع أبا كريم على الاعتناء بها ورعايتها، وتبنيها من عبث العابثين. طالت الشجرة، وكبرت مع كِبَر فرحة صاحبها، وأورقت، ثمّ طرحت التوت في مَقْدَم كلّ ربيع، فأكل منه وأسرتَه هذا النتاج، شمخت الشجرة حتى علت سطح منزل أبي كريم القابع في الطابق الثاني، ثمّ ما لبثت أن مالت بحنان؛ لتلامس جدار السطح رامية بظلها فوقه مُضْفِِية على أبي كريم وأسرتِه سعادةً طال انتظارها؛ لأنها كبرت مع أولاده، وصار بينها وبينهم خبز وملح، سقوها، وحموها، فأعطتهم التوت بيسر فوق سطح منزلهم.
تبسّم الغافي متذكّراً أم كريم التي تشارك زوجها عشقه، وولهه، فهي تحثّه على وضع الطعام للحمام، وتساعده في تكريم ضيوفه، ولعلّ تحضير الوجبة لهم يحتاج إلى طريقة يسيرة عرفتها مع الممارسة من خلال تقطيع الخبز، أو تكسيره، ثمّ بلّه بالماء.
ما شاء الله يا أبا كريم لقد كثر الحمام كثيراً، فقد كنّا نقدم لها ما يفيض من خبزنا كل يومين مرّة،أماّ الآن..
(قاطعها زوجها) هذه سنّة الكون، ألم نكثر نحن كذلك؟ كناّ أنا وأنت في البيت، واليومَ صار أولادنا خمسةً (بعينين العدو).
هذا من حظ الحمام، فالأولاد يرمون كثيراً من الخبز والأكل، كما أنهم يساعدونك في إحضار الخبز اليابس من عند الجيران والمعارف.
اتركيها على الله يا أم كريم، لا أكتمك سراً إذا قلت لك: إن بعض الناس صاروا يقدمون لي الخبز دون أن أطلبه منهم، وفي بعض الأحايين كنت أشتري بعض الأرغفة وأصعد خلسة إلى السطح؛ لأضعها للحمام، كلّه بثوابه إن شاء الله.
يصحو أبو كريم من غفوته وأحلامه، وينظر من خلال شقوق باب السطح الخشبي ثانية بطرف عينه إلى الساحة التي غفت عليها شجرة التوت، مركّزاً نظره على المنطقة التي اعتاد أن يضع فيها سَماطَ طعام الحمام، فكلّ أمله أن يظفر بلقاء أحبّته.
نادته زوجه مراراً ليأكل، وأرسلت إليه كريماً لحثّه على النزول دون جدوى، فقد تحمّل قساوة البرد وشدّته في سبيل اللقاء مع مخلوقات عايشها وكبّرها دون أن يعرف واحداً منها فكلّها متشابهة، وكلّها تحوم فوق منزله، لقد عشق أسراب حمام مكّة بلونها البنّيّ المميّز المتشابهِ حتّى إنه كلّما رأى حمامات تحوّم في السماء قال لأولاده مفتخراً:
انظروا هذه حماماتنا، لاحظوا كم هي سمينة!!!
الفضل لنا يا بابا ألسنا نساعدك في جمع الخبز والطعام، ونطرد القطط التي تقترب من بيتنا، بل من شارعنا؟...ويضحك الجميع ضحكة بريئة سعيدة.
بعد أن تنشّط أبو كريم حدّثته نفسه بأن يشعل سيجارة تاقت إليها نفسه، لتقطع عليه وَحْشته ، وتخفّفَ من ضجره، لكنّه آثر التريث، خوفاً من عدم مجيء الحمامات، إذا استشعرت بأيّ خطر، أو صوت، لاسيّما أنها لا تعرف مطعمها كذلك، ولم تأنسْه، على عكس الحمام في كثير من البلاد حيث تقف فيها هذه المخلوقات على أكفّ الناس ورؤوسهم... وعلى الرغم من ذلك صمّم على إنهاء المهمة؛ ليكحّل عينيه برؤيتها، ويحصد النصر نصر الإطعام والتسمين والتكاثر الذي جعله عاجزاً عن مواكبة ذرّيتها، و سدّ رمقها.
فرك أبو كريم عينيه بكمّ معطفه، وأعقبها بلفّاحته بفركة أخرى دون أن ينبِسَ ببنتِ شفة... عدّل جِلسته بعد أن لمح مجموعة منها بلونها البنيّ الجميل وقد شرعت بالأكل، ورأى ثلّة أخرى بدأت تتدحرج متهادية من أغصان شجرة التوت التي تلامس السطح، وتزاحمت الكوكبة على الأكل بحركة دؤوب مطرقة رأسها في طعامها، وكأنّه أمام ثورة الجياع، وقد وقعوا على طعام بعد طول غياب...ياالله ... نادى بأعلى صوته عندما رأى قطيعاً من الجرذان التي اعتادت منذ سنوات طويلة تسلّق شجرة التوت؛ لتتناول وجبتها المعتادة من مائدة أبي كريم.

قصة قصيرة: رجل في بيت أبيض

رجل في بيت أبيض
العين 16/4/2009 الدكتور أمان الدين محمد حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القناة الأولى
جاوز أبو محمد السبعين من عمره وأخاديد الزمن في وجهه تغور وتحكي كلّ يوم قصصاً عاشها منذ النكبة الأولى، وتذكّر يوم قتل أبوه أمام ناظريه، وطرد من بيته وبيّارته مع آلاف من النسوة والأطفال على مسمع من العالم المتحضّر المتمدين آنذاك، حمل آلامه على كاهله ونسج آماله الطفولية بخيوط الأيام، لا يلوي على شيء في هذه الحياة إلاّ مفتاحَ بيته وخيمةً صغيرة ضمته مع أمه وإخوته إلى جانب ما لا يتسع له البصر الممتدّ من الخيام التي تحولت مع الأيام إلى بيوت من الصفيح؛ لتشكل مدينة أطلقوا عليها اسم "مخيّم المغازي".
كبر أبو محمّد وظلّت آماله كبيرة في يوم يعود فيه إلى بيته وحقله، وشكّل المفتاح عنده مفتاحاً للسعادة التي تدغدغ مخيلته على الدوام، ومرت عربة الزمن فوق أحلامه عام ستة وخمسين وكذلك عامَ سبعة وستين حيث مرّغت أحلامه بالتراب، وثلاثةٍ وسبعين، لكنها لم تقوَ على إطفاء الأمل لديه، خبّأ مفتاحه في كثير من المحن التي عصفت بأمة العرب، وكم من مرّة أوشك مفتاحُه أن يضيع، لكن الإرادة لدى أصحاب المفاتيح أقوى من النوائب والمصائب.
جاء خفافيش الظلام يوماً فوق غزّة وما حولها؛ ليجوّعوا من تبقى من أصحاب المفاتيح وأبنائهم وأبناء أبنائهم؛ ليقطفوا البسمة الصابرة التي يملكها أصحاب المفاتيح، بسمةً وهبها الله لبعض الناس الذين لا يعرفون اليأس والتراجع والخنوع، يدفعون بفلذات أكبادهم في سبيل بقاء البسمة تعلو الشفاه، وبصيصِ الأمل متّقداً.
حلّق الطيران في سماء قطاع غزّة دون أن يتخيّر أهدافاً ؛ لأن كلّ القطاع هدف مشروع لديه، وبدأ القصف، وتكوّر أبو محمد وزوجه وأطفاله الصغار إلى جانب أحفاده في زاوية من زوايا المنزل المتداعي أصلاً ؛ ليتّقي الجميع قسوة الغارات الإسرائيلية على مخيّم المغازي، أمّا أولاده الثلاثة الكبار فقد تركوه إلى جهة لا يعلمها بالتحديد، لكنّه متأكد أنهم يدافعون عن بقايا وطنهم الذي نُهِشت أطرافه من كلّ جانب وانتهك على مرّ السنين. أعطى أبو محمد توجيهاته للجميع من نساء وأطفال أن خُذوا حذركم وابقوا إلى جانب الجدران دائماً؛ لتتّقوا انهيار الأسقف من شدّة القصف، واهتزاز أركان البيت إن كانت له أركان، ساعات عصيبة من العويل والبكاء والصراخ توقف بعدها القصف وخرج الناس في الهزيع الأخير من التحمل والصبر يلمّون الجراح من جنبات المخيّم، ويضمّدون آلام بعضهم بعضاً، ولا مساعد لهم على خوفهم إلا رشقات أسلحة المقاومين التي يميزونها بدراية ومعرفة، ويطمئنّون من خلالها، ويتيقنون أنّ الأمور بخير، لا فرق إن كان من استشهد ابنَنا أو ابنَ جارنا، المهمّ أننا نسمع صوت أسلحتهم لنعرف أننا على قيد الحياة.
القناة الثانية
أطفال في عمر الورود تسابق أحلامهم خطواتهم الصغيرة وهم يمرحون في باحة مدرسة صلاح الدين الأيوبي في غزّة، لم يعرفوا مرارة الأيام التي عاشها أهلوهم في النكبة إلاّ من حكايا جداتهم، فتحوا عيونهم على حلم كبير كبير حلم العودة إلى فلسطين أرضهم القريبة البعيدة، لو تسلّلنا إلى أحاديثهم الخاصة لسمعناهم يقولون واحداً تلو الآخر:
· يقول والدي نحن من يافا: كنا نملك ييتاً جميلاً تحيط به أشجار الفاكهة من كلّ جانب ومازال مفتاحه لدينا.
· ويقول آخر: نحن من قرية النبعة قضاء صفد كما يحكي لنا جدي: بيتنا يقبع في أحضان بيارات البرتقال، وبقربه نبع عذب، يقول والدي: إنه من أعذب مياه الأرض.
· ويقول ثالث: يقول جدي: إنّنا من قرية العالية قرب القدس حيث تسدّ الأفق أشجار الزيتون؛ لتلتصق مع السماء في منظر ساحر.
يُقرع جرس المدرسة، ويصطفّ التلاميذ مع معلماتهم في طابور الصباح؛ ليردّدوا نشيد فلسطين كما اعتادوا كلّ صباح، كلّ يرفع صوته بغريزة لا يدري كنهها، إنّما يشعر بفرحة غامرة، ونشوة تساوي نشوة النصر كلّما عانق صوته عنان السماء. بالأمس لم ينم الطلبة من هول القصف، وعلى الرغم من ذلك فقد نسوا آلام الليل مع بزوغ نهار يوم جديد، بعد أن اعتادوا هذا النمط من الحياة.
دخل التلاميذ فصولهم مستبشرين بيوم لا دمار فيه، ثانيةٌ واحدة اقتلعت فيها قنبلة فوسفورية أحلام الطفولة من جذورها، وعُلّقت مظاهر العلم والبراءة على أسطح المنازل المجاورة، وانتشرت روائح الموت لتصبغ دنيا الطفولة بلون أحمر قانٍ يترجم آلام عقود من الزمن مصوّراً حلقة جديدة من مسلسلٍ تتابعت فصوله كل يوم، ولم ير العالمُ له نهايةً، ولم تُسدل ستارةُ مسرحيته بعد.
اجتُثت الطفولةُ كلها في لحظات، ولم يبق منها إلا أيتامٌ في شوارع غزّة يخافون من خفقات قلوبهم، ويرتعدون من رفّة رموش أعينهم، يهيمون على وجوههم باحثين عن بقايا أهلهم ووطنهم، ويحكون للقنوات التلفزيونية وحشية المعتدي، وأنّهم صامدون ومقاومون حتّى آخرَ فرد منهم.
القناة الثالثة
يتربع مشفى جنين الوطني فوق تلّ يراقب المدينة بحنو أمّ تراقب أطفالها وهم يلعبون، فإذا سقط أحد الأولاد أرضاً أو ألمّت به نائبة سارعت الأم لإسعافه بكل ما تملكه من إمكانات، وهي تربت على كتفه مطمئنة، حتّى صار المشفى ملاذاً لكلّ صاحب حاجة سواء أكان غنيّاً أم فقيراً، كبيراً أم صغيراً.
دخلت أم عائد المشفى بعد أن ألمّت بها آلام المخاض المباغت، ولم يجد أبو عائد موئلاً يلجأ إليه إلاّ مشفى جنين الوطني، حمل لها حقيبة صغيرة أعدّتها لهذه اللحظة، فيها أغراض تحتاجها كلّ امرأة تدخل المشفى في حالة الولادة، نهب الزوج الأرض نهباً بسيارة جاره التي استعارها، لأنه بانتظار عائد المولود الجديد الذي سمّاه به أهله وأصدقاؤه قبل أن يتزوج، دقائق ووصل المشفى، ساعتان من الزمن وكانت أم عائد مستلقية في غرفة جيّدة، ووليدها في سرير صغير مجاور تنظر إليه نظرة أنستها أشهر العذاب التسعة، وأبو عائد تغمره فرحة ملك معها الدنيا بما فيها، دخل طبيب الغرفة واطمأنّ على صحة الأم، وهنّأها على سلامة عائد وأخبرهما بأنه سيأخذ الطفل إلى مبنى مجاور ملحق بالمشفى؛ ليوضع في حاضنة خاصة بالخدّج بعض الوقت لأنه يشكو من بعض النقص الذي يمكن تداركه، سمح للأم بمغادرة المشفى في اليوم التالي، عندها بدأت الأم تتردّد يومياً على قسم الخدّج مع أبي عائد يرقبان صغيرهما بابتسامة الرضا على أمل نقل الطفل بعد أيام إلى بيتهما وهو متمتّع بالصحة الكاملة.
صبيحة يوم السبت أيقظت أم عائد زوجها منذ الصباح الباكر تحثّه على الإسراع في تجهيز نفسه؛ لأنها على موعد مع المشفى منذ يوم الخميس لاستلام عائد؛ ليكون ابنُها بين أحضانها على الدوام، ولن تفارقه بعد اليوم، خرجا من البيت، جريا في الشارع مسرعَيْن نحو بيت الجار؛ لأخذ سيارته، انطلقا بالسيارة نحو المشفى؛ ليجدا أمامهما هرج ومرج، ويشاهدا سدّاً منيعاً حال بينهما وبين عائد سدّاً عنصرياً مصطنعاً فرق بين الأب وأبنائه وربِّ الأسرة وحقله، ومزق المدينة إلى أشلاءٍ حرمت الولدَ من مدرسته والأمَ من وليدها، هذا السدّ أطلقوا عليه اسمَ الجدار العازل.
النتيجة
في غرفة بيضاوية من غرف بيت أبيض امتدّت من خلال الضوء الخافت يد لتعبث بشعر كلب مستلق عند قدمي صاحبه الذي لم تهزّ فيه المشاهد شعرة، يتثاءب الرجل في البيت الأبيض ويتمطّى مرات ومرات، ويمسك بيده الأخرى جهاز التحكم من بعد ويطفئ شاشة التلفاز قائلاً لزوجه: أين تقع غزّةُ، وجنين، ومخيم المغازي ؟... على العموم لامشكلة في ذلك هيّا؛ لننام.