الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

قصّة قصيرة: تسونامي

تسونامي
كانون الأول 2007 بقلم د/أمان الدين حتحات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثلّة من الفتية لا تتعدّى أصابع اليد الواحدة تعيش في حيٍّ سكنيّ هادئ متطرّف راقٍ، نسيجه دارات ترصعها نخلات شهدت أجيالاً وأجيالاً وتزينها مجموعة من المرافق من مدرسة أو مسجد أو كنيسة أو غير ذلك، يداعب الحيَّ بمحبّة نهرٌ كأنّه البحر تحفّ بشاطئيه أشجار نخيل تتغلغل في ثناياها عشرات المقاهي والمطاعم. ينعم هذا الحيّ بالطمأنينة والسكينة مثلَ سائر أحياء المدينة، وجميع سكانه يعرفون بعضهم بعضاً، ويقفون متعاونين في السرّاء والضرّاء، في الأفراح والأتراح وقفة رجل واحد.

عمر وكاظم وجوان أصدقاء، بل إخوة، وهم أنموذج صادق مصغّر لأبناء الحيّ الهادئ، وعِينة يتنافس الجميع على تقليدها. جلس عمر يتذكر كيف وقف صديقاه معه عندما توفّي أخوه الكبير في حادث سير مروّع، تماماً كما وقف عمر وجوان مع كاظم في أفراح أسرته عندما تزوجت أخته من شقيق صديقه جوان، ويتذكر عمر كذلك عندما وقف الحيّ كلُّه كباراً وصغاراً حين تداعى منزل أسرة جوان في هدأة الليل، حيث هبّوا للتخفيف عن أهل هذه الدارة، فوُزِّعت الأسرة الكبيرة على منازل الجوار ليُخَفّفوا عنهم هول الكارثة حتّى أعادوا البناء على ما كان عليه.

في إشراقة كلّ صباح يستيقظ جوان ويمرّ صاحبيه؛ ليذهبوا سويّة إلى المدرسة الثانويّة التي تضمّهم وقد تشابكت أيديهم. وأمّهات الشبان تودّع أبناءهنّ بنظرات الحبّ والأمل، لاسيّما أنّهم يعبرون النهر الذي يحاذي حيّهم بمركَب كبير يختصر لهم الزمن بعيداً عن الجسر وزحمة السيارات، وفي الثانويّة يدرسون ويمرحون ويتفوّقون، ويعودون في نهاية كلّ يوم وقد ازداد الترابط بينهم، وتوطّدت اللحمة بين أسرهم، حتّى غدا أبناء الحيّ أقرب إلى قلوب بعضهم بعضاً من كثير من الأقارب أو أبناء العمّ بعد أن اختلطت الأسر المتحابة مع بعضها بكلّ إخلاص واحترام يتداولون شؤون الحياة وشجونها هذا يساعد ذاك، والآخر يخفّف عن جاره وثالث، ورابع، وهكذا كانت الحياة تنساب هادئة انسياب النهر المجاور.

في المدرسة الثانوية وقف عمر يصف في موضوعه التعبيري تجاور الدارات مع بعضها، كأنّها عقد من الجواهر المتنوعة والأحجار الكريمة؛ ألماس، وياقوت، وزبرجد، ولؤلؤ، وغيرها...يضمّها خيط واحد هو المحبّة، والودّ، والإخلاص، ويظلّلها التفاهم والإيثار.
في تلك اللحظة تناولت الأخبار المسموعة والمرئيّة ونقلت الفضائيات أنباءَ زلزال كبير بلغت شدّته أعلى الدرجات التي عرفها سلّم رختر، كما نقلت الأخبار ما أعقبه من موجات تسونامي قبل وصولها إليهم بعدة أيام، وشرع السكان يتدارسون الأمر فيما بينهم، ونسّق عمر، وكاظم، وجوان طرق الوقاية من هذا الوباء القادم الذي لا تنفع معه حملات تطعيم، ولا وقاية، ولا علاج، فهو قادم لامحالة، وعليهم الاستعداد، لقد خزّنوا الطعام والشراب لأهلهم، وأعطى كبار الحيّ خلاصة حِلمهم لحماسة الشباب وصغاره، وبيّنوا لهم كيف مرّوا بأكثر من تسونامي خلال حياتهم، وعرفوا شراسته، وخبروا قوّة بطشه، وتعاملوا معها، وكانوا في كلّ مرّة يخرجون وهم أمضى عزيمة، وأقوى شكيمة، وأصبح حالهم كحال من يأخذُ لقاحاً يقيه المرض، هذا اللقاح لايمنع قدوم الوباء، بل يمنعه من القضاء عليه.

مع الصباح رأى عمر انسداد الأفق بغيوم كأنها هي التي نفضت أمواج البحر من أعماقها، وزُلزلت الأرضُ زلزالها، وأخرجت الأرضُ أثقالها، واختبأت الشمس خائفة مرتعدة خلف الأفق، ولم تعد تسأل عمّن اعتادت أن تضحكَ في وجوههم كلّ صباح، وتقبّلَ وجناتِهم وهي تنير لهم الجبال والوديان والبيوت والأنهار، واستمع سكان الحيّ الهادئ كسائر الأحياء والمدن، والأمصار إلى هدير الأمواج وهي تزحف من بعيد، بعيد جدّاً، فغُمِرت البيوت واصطدمت الأسقف، وتشرذم الناس، وتفرّق معظم الأحبة.

لم يجد عمر في تلك اللحظة التي تُذْهِلُ
[1] أيسرَ من اللجوء إلى المركَب الذي كان يستقلّه في ذهابه إلى المدرسة؛ مركَبٍ خشبيّ يتسع للعشرات من الناس، وحاجاتهم على الرغم من صغره. قفز عمر إلى المركَب وحلّ حباله التي تؤمن رسوّه على شاطئ النهر، وأخذ معه من استطاع من أهله الذين كانوا في الدارة لمّا بدأت الأمواج تتلاطم والهدير يصمّ الآذان مختلِطاً بأصوات الاستنجاد وطلبِ المساعدة من الناس لبعضهم بعضاً، بدأ المركَب يطفو، ويطفو فوق سطح المياه الهادرة، يميل يمنة ويسرة حتّى يكاد أن ينقلب. وترتفع مقدمته لتطاوِل أسطح المنازل ومع كلّ حركة من حركات المركَب يقترب الهلاك من راكبيه، ويتعالى صراخهم الذي يُنِبئ بشرّ مستطير. غاب الحيّ عن ناظرَيْ عمر، ولم يعد يرى إلاّ أسطحَ المنازل المرتفعة ومئذنةَ مسجد الحيّ، وبرجَ الكنيسة الوحيدة التي ظلّ جرسها النحاسيّ الكبير يتأرجح مع أمواج المدّ الهائل من المياه متحدياً عنفوانها بصوت قرعه الرنان وهو يلمع عاكساً أشعةَ الشمس الخائفة الخجلى التي تتلصّص من خلال ثقوبٍ فتحَـتْها في الغيوم الكثيفة المتراكمة.
لمح عمر من بعيد صديقه كاظماً وهو يكافح ليصل إلى المركَب الذي كبر بما يحمله من أحبّة ذلك الحيّ، رمى عمر له حبلاً وقاوم الأمواج المتلاطمة مستعيناً بالعناية الإلهية التي أوصلت الحبل إلى كاظم، بعد فترة من المقاومة كان الاثنان يتعاونان ليرميا الحبل لكثير من الأهل والأصدقاء ولكل من طلب النجدة من أهل الحيّ دون تفريق بين قريب أو غريب، والفرحة الكبرى كانت عندما كان جوان من بين الناجين الذين صعدوا المركَب.

لمح الشبان الثلاثة من بعيد نخلةً طافية تتلاعب الأمواج بها وهي تنوء بحملها من الرّطَب
[2] الصفراء، نخلةً لم يشهدوا مثلها من قبلُ، كان همهم الوصولَ إلى هذه النخلة لأنها تعينهم على الطفوّ فوق سطح الأمواج العاتية التي أغرقت كلّ شيء وليكوّنوا معها جسماً خشبياً كبيراً يؤمّن التوازن في مقاومة ارتفاع الأمواج، وليأكلوا من ثمرها إذا دعت الحاجة ونفذت مؤنُهم، كان الوصول إليها أمراً شاقّاً، حاولوا جاهدين مقاومة أمواج المدّ الرهيبة ولم يشعروا بالقهر والخِذْلان، ولم يعرف اليأس إلى نفوسهم طريقاً عندما تمزقت أشرعة مركَبهم، وتكسرت صواريه، فقد بنوا من أجسادهم صواريَ جبارةً تقاوم جبروت تسونامي، وتغيّر معادلة الطبيعة حتّى وصلوا إلى تلك النخلة الهدفِ أو وصلت إليهم لافرق، المهمّ في الأمر أن يربطوا مصير النخلة بالمركَب، وكان لهم ما أرادوا عندما التفّت حبالهم حول النخلة التفاف ساعدي عاشق حول جسد محبوبته بعد طول غياب، وقاوم الاثنان المركَبُ والنخلةُ الأمواجَ والأعاصير؛ ليخلقوا معادلة جديدة تقوى على معادلة غدرَ الطبيعة.

كان همّ جوان أن يقطفَ من ثمر النخلة ليسدَّ به بعضاً من جوع أهل المركَب، تماماً كما كان همّ كاظم أن يجول بناظريه على الأجساد المتراكمة في جسم المركَب يشجّع هذا، ويأخذ بيد ذاك، يسقي الأول مما تيسّر من الماء ويشدّ أزر الثاني بابتسامة متكلّفة تخفي وراءها عذاباً وقلقاً من مصير هذا المركَب الذي يتلاعب به جبروت تسونامي وبتلك النخلة المنصهرة معه كأنهما ريشة في مهبّ الريح.

مرّت على الشبان الثلاثة أوقات أنستهم الوقت والزمن، والمالَ والمسكن، وكان همهم الوحيدُ هو الأرض، وأهلُ الأرضِ، انصهرت أجساد الجميع في مجابهة تسونامي الذي لم يرحم كبيراً أو صغيراً، لقد غمر بوحشيّة البيوتَ والمساجد والكنائس، سرق ألعاب الأطفال من أيدي البراءة، وخطف رغيف الخبز من أيدي آكليه، وكسّر أقلام الرصاص، ومزّق دفاتر أولاد المدارس.

تعب تسونامي، وانطفأت جذوته شيئاً فشيئاً، وتهالكت قواه وبدأت تنحسر أمواجه والمركَبُ المنقِذُ متشبّثٌ بالنخلة حيث أنقذ كلٌّ منهما الآخرَ. ساعةً بعد ساعةٍ حسبها الخلق دهراً بعد دهرٍ ظهرت من جديد أسقف المنازل ومآذن المساجد وأبراج الكنائس كأنها غرقى يمدّون أيديَهم فوق سطح المياه طلباً للنجاة، وبدأت قمم الأشجار التي كُتِب لها ألاّ تنكسر لظلم تسونامي تتفتّقُ من بين أمواج جلادها من جديد، وأخذ المركَب يهبط شيئاً فشيئاً من علٍ إلى أن لامس الأرض بعيداً عن مجرى النهر، ونظرت وجوه الأحبّة والأصحاب في صفحات بعضها بعضاً؛ لتكـتشف أنّ النخلة التي ارتبطوا بها لم تكن طافية فوق سطح أمواج تسونامي، ولم تتزحزح من مكانها قَيْد
[3] أُنْمُلة، ولم تتلاعب بها الأمواج يمنة أو يسرة مقدار ذرّة، بل كانت جذورها ضاربة في الأعماق، ترضع من تراب هذه الأرض الطاهرة، تلك النخلة التي جعلت من جذورها أوتاداً دُقَّت في رَحِمِ الأرض وجعلت من الحبال التي ربطتها بالمركَب حبلاً سرّيّاً أمَّنتْ مَشِيمتُهُ الحياةَ لهذا المولود الجديد.
15/12/2007


[1] ذَهِل يَذْهّل عنه: نسيه وشُغِل عنه
[2] مفردها رُطَبَة وهو ما ينضج من البلح قبل أن يصير تمراً، وتُجْمَع كذلك على أرْطاب ورِطاب

[3] القَيْد: هنا بمعنى المقدار